فقاعة الدين العالمي قد تنفجر في أي وقت
الصين والأرجنتين وتركيا تتصدر المخاطر
النشرة الدولية –
مع تصاعد أزمة الديون العالمية، التي باتت من وجهة نظر كثير من المختصين الاقتصاديين التحدي الأبرز للنظام الاقتصادي العالمي، فإن عديدا من التساؤلات تدور حول حقيقة تلك الأزمة، وعمقها والأرقام المرتبطة بها وكيفية تأثيرها في النمو الاقتصادي على المستوى الدولي والأسباب التي أدت إليها ومدى واقعية الحلول المطروحة لتقليص تلك الديون أو التخلص منها إن أمكن.
عشرات من الأسئلة والندوات والدراسات قدمت في مسعى لإيجاد حل، ومع ذلك فإن حجم الدين الدولي آخذ في الزيادة يوما بعد آخر بطريقة تجعل بعض الأصوات الاقتصادية تنظر إليها باعتبارها أزمة مزمنة، لن ينتبه النظام الاقتصاد العالمي إليها أو يعمل على حلها جذريا ما لم تؤثر بشكل حاسم في الأداء الاقتصادي خاصة في البلدان المتقدمة.
لا شك أن الدول – في بعض الجوانب – مثل الأفراد والعائلات الذين يقترضون المال لدفع ثمن منزل أو تعليم الأبناء، كما أن الدول أيضا تقترض من أسواق رأس المال الخاصة، والمؤسسات المالية الدولية لدفع تكلفة إنشاء أو تطوير البنية التحتية، أو شراء احتياجات مواطنيها من الخارج، وكالأفراد تماما عليها أيضا سداد الأصل والفائدة على القروض التي تحصل عليها، وأيضا كالأفراد تماما فإن الدول تعجز أحيانا في سداد ديونها ما يدفعها إلى إعلان إفلاسها وهو ما حدث مع الأرجنتين سابقا على سبيل المثال.
لكن ما الذي يدفع العالم إلى الحديث عن أزمة ديون حاليا؟ وما أسبابها؟ حيث يشير الباحث دي. وايت الاستشاري في بنك التسويات الدولية إلى أن القيمة الإجمالية للدين العالمي تتجاوز حاليا 250 تريليون دولار، ما يجعله يصف الوضع بـ “فقاعة مديونية عالمية قابلة للانفجار في أي وقت”.
ويقول: “إن المعضلة تعود إلى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، عندما تساهلت المصارف التجارية في تقديم القروض للبلدان النامية دون رصد لقدرة تلك البلدان على سدادها أو طريقة استخدامها، ومن جانب آخر الأزمات الاقتصادية المتكررة في البلدان الرأسمالية عالية التطور مثل الولايات المتحدة وأوروبا الغربية والركود الاقتصادي في كثير من الأحيان دفعها إلى تبني سياسات مالية تعتمد على رفع أسعار الفائدة لجذب رؤوس الأموال الدولية إليها، ما زاد من مديونيتها”.
ويضيف “الإقراض غير المسؤول من جانب الدائنين، وسوء الإدارة من جانب المدينين، والركود العالمي في الاقتصادات المتقدمة، كل ذلك فاقم أزمة الدين العالمي، وعلى الرغم من الجهود الدولية لإعادة جدولة الديون، إلا أن المشكلة لم تحل بل زادت تفاقما”.
ويبدو تفاقم الأزمة واضحا من تجاوز معدل الدين العالمي إلى الناتج المحلي الإجمالي الدولي نسبة 318 في المائة، حيث بلغ دين القطاع غير المالي 186 تريليون دولار، وسط مستويات قياسية من ديون الشركات تجاوزت 80 تريليون دولار، في الاقتصادات الصاعدة والمتقدمة معا. وهو ما يثير القلق بين المختصين في أن تتسارع أزمة المديونية العالمية، نتيجة الديون الضخمة على الشركات، وعدم قدرتها على السداد في ظل الحرب التجارية الراهنة والسياسات المالية التي تعتمد على رفع أسعار الفائدة.
ويعتقد كثير من المختصين أن المظاهر الأولية لانفجار فقاعة الدين العالمي، ستبرز بشكل واضح في سوق الأسهم، خاصة مع لجوء كثير من الشركات الدولية إلى عملية إعادة شراء أسهمها لتعزيز أوضاعها في الأسواق، إذ يؤدي الارتفاع المتواصل لأسعار الفائدة، إلى تراجع قدرة عديد من الشركات على الاقتراض، وزيادة عبء الدين عليها في الوقت ذاته، ما يضعف الخيارات الاقتصادية المتاحة لها، وليصبح خيار خفض أو التراجع عن شراء أسهمها الخيار الأكثر واقعية أمامها، وبالتالي تتراجع قيمة السهم الواحد لديها، وغالبا ما يرافق ذلك افتقادها الجاذبية من قبل المستثمرين، لينتهي بها المطاف إلى إعلان إفلاسها في حال تعرضها لخسائر مالية كبيرة.
مع هذا يعتقد المختص الاستثماري جوزيف بن، أن الخطر يتجاوز أيضا الشركات ليمس بشكل مباشر قدرة الدول على التعامل مع أزمة الديون. ويشير في هذا السياق إلى تصريحات دان كوتس مدير الأمن القومي في الولايات المتحدة إلى أن الدين الأمريكي البالغ 21 تريليون دولار “تهديد خطير للأمن الاقتصادي والوطني الأمريكي”.
ويؤكد لـ “الاقتصادية” أن التداخل الاقتصادي أحد الجوانب الأساسية لظاهرة العولمة، إذ بات الاقتصاد الدولي بغض النظر عن معدلات النمو بين أطرافه المختلفة، في حالة من التفاعل اليومي بطريقة تجعل تأثير الوضع الاقتصادي في إحدى الدول سلبا أو إيجابا عاملا محددا لخطط ومعدلات النمو في اقتصاد آخر، وهذا الترابط الاقتصادي يعقد قضية الدين العالمي، ويتطلب حلا جماعيا لتلك المشكلة.
ويضيف “حتى في الاقتصادات المتقدمة فإن أزمة الديون يصعب حلها دون تنسيق مع الاقتصادات الصاعدة والنامية، لكونهما مصدرا رئيسيا للمواد الأساسية التي تعتمد عليها الاقتصادات الأكثر نموا مثل الولايات المتحدة والصين لتحقيق معدلات النمو المستهدفة، ومن ثم تفاقم أزمة المديونية في الاقتصادات الناشئة أو النامية يهدد الاستقرار الاقتصادي في البلدان الرأسمالية عالية النمو.
مع هذا فإن بعض الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي، يعتقدون أن مشكلة الديون على الرغم مما تحمله في طياتها من مخاطر، إلا أنها مؤشر أيضا على أن الثروة العالمية في تزايد، رغم الأزمات التي يمر بها الاقتصاد الدولي.
وتشير الدكتورة ويندي جورج أستاذة الاقتصاد الدولي، إلى أن أزمة الديون لا يجب حصرها في جانب أحادي وهو قيمة الدين العالمي، إنما يجب النظر إليها في إطار علاقتها بالقدرة الإنتاجية.
وتقول لـ “الاقتصادية”، “إن الديون الاقتصادية ليست شرا مطلقا، إنما تتحول إلى خطر عندما يكون هناك إفراط في الدين مع غياب حسن إدارته أو افتقاد القدرة على السداد مستقبلا، ولهذا يجب النظر إلى علاقة الدين العالمي بالقدرة الإنتاجية المستقبلية للاقتصادات المستدينة، فكثير من الدول النامية يستهدف بالإقراض الإنفاق على التعليم أو تطوير البنية التحتية، وهنا يعد الاقتراض قرارا حكيما”.
وتعتبر الدكتورة ويندي أنه يصعب القول “إن هناك أزمة مديونية عالمية، فدول مثل الولايات المتحدة أو الصين التي بلغت ديونها الحكومية والخاصة نحو 34 تريليون دولار، دول قادرة على التعامل مع أزمة الديون، ولا تهدد الديون بنيتها الاقتصادية الكلية، وتلك الدول يقع عليها العبء الأكبر من الدين العالمي، بينما قضية الديون في دول مثل اليونان وتركيا والأرجنتين والمكسيك يعني انفجارها انهيار تلك الاقتصادات بالكامل”.
بالطبع لا تحظى وجهة النظر تلك بقبول كثير من المختصين خاصة في القطاع المصرفي، الذين يشيرون صراحة إلى أن مشكلة الديون باتت تضغط بقوة على النظام المالي الدولي، خاصة في ظل تنامي إجمالي الديون الصينية، والشعور العام بأن الحرب التجارية مع واشنطن ستنعكس حتما على معدلات النمو لدي الصين، ما يضعف قدرتها على مواصلة سداد أعباء الدين الحالي.
بدورها، تشير كاثي ريتشارد المختصة في التحليل المالي إلى أنه بنهاية العام الماضي تضاعفت حصة الصين من الديون العالمية ثلاث مرات منذ الركود العالمي لعام 2009، ولا تزال الصين واحدة من ثلاثة بلدان عالية المخاطر إلى جانب الأرجنتين وتركيا.
وتؤكد لـ “الاقتصادية” أن الصين والولايات المتحدة ومنطقة اليورو مصادر قلق رئيسية في أزمة الدين العالمي، فالمناطق الثلاثة يمثل انفجار أزمة المديونية فيها انهيارا حقيقيا للنظام المالي العالمي، وعلى الرغم من استبعاد حدوث ذلك في الأفق المنظور، إلا أن مواصلة تراكم الدين العالمي، والأزمات الاقتصادية المتتالية، وغياب سياسة مالية مستقرة، وتنامي الحمائية الدولية، ليست بالضرورة مفجرا لأزمة المديونية بشكل مباشر، لكنها كفيلة بإيجاد مناخ اقتصادي متراجع فيما يتعلق بمعدلات النمو، حيث يفقد تلك الاقتصادات القدرة على تحمل أعباء الديون الراهنة، أو مواصلة الاقتراض، بما يعني انفجار أزمة المديونية العالمية.