اعترافات امرأة صامتة
النشرة الدولية –
فوز حمزة كلابي
صمت مطبق احتل زوايا البيت بينما أركانه باتت تشكو الوحدة .. لم أعد أسمع منذ شهور سوى صوت أصابعه تنقر على الحاسوب ..
حساسيتي المفرطة تجاه الأصوات تجبرني للهرب منه فأشغل نفسي في المطبخ أوالثرثرة في الهاتف وأحيانًا أتابع برنامجًا ثقافيًا ..
فزوجي ومنذ تفشي مرض كورونا .. طلبت منه الشركة نقل كلَ شيء إلى المنزل ومتابعة العمل من هناك حتى إشعار آخر ..
فرحت كثيرًا .. بالرغم من أنّ ثمن الفرحة كلفني تغيير ديكور الصالة والتي أصبحت بعد فترة مكانًا لا يسمح لنا بدخوله إلا بعد الانتهاء من العمل ..
قلت لنفسي .. لا بأس .. غيابه عن المنزل لفترات طويلة كان سببًا مهمًا من أسباب خلافاتنا .. خاصة أن عملي بدوام مسائي في مكتب للترجمة قد زاد الطين بله ..
بفضل كورونا بدأنا نتناول وجباتنا على مهل .. مستمتعين بكل لحظة …. نشاهد التلفاز سوية .. نثرثر غير آبهين من نفاد الوقت .. أحياناً يشاركني في إعداد الوجبات ومراجعة الدروس للأولاد مما أضفى على البيت مزيدًا من الحميمية ..
فالحب الذي يكنه قلبي له يشبه كرة نار مشتعلة في غابة يابسة ..
راودتني فكرة أخباره أن الفضل في تلك التغييرات التي طرأت على حياتنا كانت بفضل هذا المرض اللعين
.. لكنني أخفيت تلك المشاعر خجلًا من نفسي ..
انتابني شعور أننّي بلغت قمةَ السعادة .. وفاتني إدراك أّن الوقوف على القمة تعني النظر إلى الأسفل .. فلا شيء على القمة سوى الفراغ والغمامِ .
مرت شهور ثلاثة .. بدأ الملل يتسرب إليّ من ثقب الباب وشقوق الجدران .. الأيام بدت لي متماثلة ذات لون واحد وشكل لا يتبدل ..
الوهج الذي أشعله وجود زوجي في المنزل بدأ يخفت حتى انطفأ كليًا .. بدأت أطيل الصمت .. أحاديثي المتكررة معه أشعرتني بسخفي وتفاهتي حين ألمح ذلك في نظرة عينيه عندما يتأملني واضعاً كفه تحت خده دون أن يتفوه بكلمة ..
افتقدت اللهفة التي كانت تعتريني حين يتصل بيّ عندما يكون خارج المنزل …
الغريب أنني افتقد مرافقة الصديقات ومسامرة الجارات على الجلوس معه ..
وأنا ارتشف الشاي وحدي بينما أصابعه تنقر في رأسي .. تواردت لخاطري أفكار غريبة لم تطرأ على بالي قبل دخولنا في أزمة المرض ..
قلت لنفسي .. ربما المسافات التي تفصل بين الناس هي من تحتفظ بذلك الوهج لمن نحبهم ..
الغياب ينثر السِحْرَ فيبدو كل شيء رائعًا مثاليًا ..
شعرت بحنين جارف للأوقات الماضية حين كان يتصل بيّ وهو في العمل .. صوته يوقظُ شيئًا جميلاً في داخلي .. يجعلني أعود طفلة من جديد ..
هو من كاَنَ يؤججُ الشوقَ وينفخ فيه كلما خبتْ ناره ..
نظرت إليه .. عيناه لا تفارق جهاز الحاسوبِ .. يمينه تبحث في المتصفح وفي الأخرى يمسك فنجان القهوة الباردة .. بينما دخان سيجارته رسم غيومًا رصاصية تنذر بسقوط مطر أسود ..
ما بيننا يشبه صمت المقابر ..
شعرت باليأس يتوغل عميقًا داخلي وأنا أتساءل ..هل ستبقى حياتنا رهينة هذا المرض اللعين ؟
فزعت حين فكرت بأيامنا التي ستمسي أكثر وجومًا وقتامة !!
بينما أمسك جهاز التحكمُ عن بعد لأبحث في القنوات الفضائية .. جاءني إتصال من مديري لأعود للعمل ..