تقليل النق والتحلطم والشكوى
بقلم: أحمد الصراف
النشرة الدولية –
عندما دخل التلفزيون بيتي، نسيت القراءة، وعندما دخلت السيارة مرأب منزلي نسيت كيفية المشي، وعندما أمسكت بالهاتف النقال نسيت الكتابة بالقلم، وعندما اقتنيت كمبيوتراً نسيت كيفية تهجئة الكلمات، وعندما دخل المكيف منزلي توقفت عن الذهاب إلى التمتع بنسيم الهواء في الخارج، وعندما سكنت المدينة نسيت رائحة الطين، وعندما أصبحت حياتي تدار بالبطاقات الائتمانية والحسابات المصرفية، نسيت قيمة المال، كما أنستني العطور الصناعية رائحة الورود الطبيعية، ومع الأطعمة السريعة نسيت تحضير الأطعمة التقليدية.
كل من يقرأ هذا الكلام يهز رأسه متحسّراً على ما أصابنا، مومئاً بالموافقة على هذا الكلام، ولكن الحقيقة غير ذلك تماماً، فالمسألة تعود بكاملها إلى نظرتنا للأمور، ومدى قوة شخصيتنا ورفضنا الانجرار مع أي تيار، ففي كل عقد وعصر جديدين هناك مستجدات سيئة أحياناً، ولكنها رائعة ومنطقية في الغالب.
فقد دخل التلفزيون بيوت العالم، بمن فيهم الأميركيون في الثلاثينات من القرن الماضي، ومنذ يومها حتى يومنا زاد قراء الكتب أضعافاً مضاعفة، وأخرجت العقول أفضل منتجاتها من روايات وأغانٍ ومسرحيات وأفلام سينمائية.
وعندما دخلت السيارة بيوتنا، توقف البعض عن السير، ولكن حمى ممارسة الرياضة والجري والهرولة والاشتراك في الأندية الرياضية أصبحت نموذجاً يقتدى به بصورة لم تعرفها البشرية من قبل، وأصبح البشر يتمتعون بصحة أفضل مع دخول السيارة لحياتهم، وجعلت انتقالهم وتواصلهم مع الآخرين أكثر يسراً، هذا غير توفير الوقت لقضاء أمور أكثر أهمية، عدا مزايا السيارة الاقتصادية العديدة.
أما الكمبيوتر فربما أنسانا شيئاً من تهجئة الكلمات، ولكنه أدخل آلاف الكلمات الجديدة لحياتنا، ودفعنا إلى قراءة روايات لم نكن نحلم باقتنائها، هذا غير مشاهدة الأفلام العالمية والوثائقية والأخبار والمعلومات الطبية، وكل هذا ضاعف من معارفنا.
وربما أنساني الجلوس في غرفة مكيفة متعة الجلوس في ظلال شجرة وشم نسيم الهواء العليل، ولكن تحت درجة حرارة تبلغ الخمسين من يريد ترك اختراع الأخ «كارير»، والجلوس في الخارج وكش الذبان؟
أما القول بأن استخدام العطور أفقدنا متعة شم رائحة الزهور فهذا قول بعيد عن الواقع، فالعطور لم تمنعنا من التمتع برائحة كل وردة وزهرة طبيعية، بل ساعدت رائحتها في تلطيف الأجواء من حولنا، وتحمل ما لا يمكن تحمله من روائح البعض، خاصة حيث لا حدائق ولا زهور ولا من يحزنون.
أما القول بأن الأطعمة السريعة قضت على الطبخ التقليدي، فهذا تجنّ على ما حدث من انقلاب إيجابي ضخم في طرق الطهي التقليدية، بحيث أصبحت أشهر مطاعم العالم تتفنن في تقديم الغريب والرائع من الأطعمة التي تجذب الملايين لها من كل أنحاء العالم بغية التمتع بمذاقها، وهذا ما لم يعرفه العالم من قبل. علما بأن الأطعمة السريعة ضرورية لمن لا قدرة لهم على شراء الغالي من الأطعمة، كما أنها تشكل وجبة لا بأس بها لمن لا وقت لديه للطبخ، ولا معرفة بكيفية تحضير وجبة طعام.
الحياة تتغيّر وتتحسّن، والأعمار تطول، وكل جيل يعتقد أن الجيل الذي سبقه كان أسعد منه وأفضل، وكيف أن حياة من سبقونا كانت أكثر بساطة وراحة، والأمور أجمل، والناس أكثر أماناً! هذا ما قلناه عن الجيل الذي سبقنا، وسمعت ما يماثله من والدي عن الجيل الذي سبقه، وقاله جدي حتماً عن الجيل الذي سبقه، وسيقوله ابني وأحفادي عن جيلي، وهكذا! ولكن الحقيقة تبقى أن يوماً عن يوم أعمار البشر في ارتفاع، في كل دول العالم، والصحة الجسدية والفكرية أفضل بكثير، والدليل هذا الإنتاج العقلي الذي نراه حولنا، والاختراعات المتتالية التي بلغت أوجها في القرنين الـ20 والـ21، ولا يبدو أن شيئاً سيفقدها زخمها قريباً.
تمتعوا بحياتكم وقللوا من النق والنكد والتحلطم والشكوى، فهذه هي الحياة وليس بالإمكان تغييرها، إلا بصورة مؤقتة، لتعود إلى سابق عهدها، والكورونا خير مثال!