ترجمة وإعداد محمد أمين –
المواجهة بين روسيا والغرب لا تمثل عودة إلى الحرب الباردة تماماً، بل يمكن وصفها بالسلام الحار. فعلى العكس مما كان عليه الحال إبان الحرب الباردة، لم يعد الكرملين يروج لأيديولوجية لها جاذبية على نطاق عالمي. صحيح أن قوة روسيا تتنامى اقتصاديا وعسكريا، لكنها لم تستطع الوصول إلى وضع القوة العظمى كما كان عليه الاتحاد السوفيتي. كما أن العالم ليس منقسما بين اللونين الأزرق (الرأسمالي) والأحمر (الشيوعي)، ذلك الانقسام الذي كانت تدعمه التحالفات المتعارضة. فليس لروسيا سوى القليل من الحلفاء اليوم. ومع ذلك، فإن حقبة السلام الحار الحالية أحيت الذكريات المريرة للحرب الباردة في الوقت الذي أضافت أبعاداً جديدة الى المواجهة. لقد برز صراع ايديولوجي جديد بين روسيا والغرب ليس بين الشيوعية والرأسمالية، بل بين الديموقراطية والدكتاتورية.
يقول مايكل ماكفول مؤلف كتاب “من الحرب الباردة إلى السلام الحار العربي” : ولدت في أوج الحرب الباردة، بعد عام أوشك فيه كيندي وخروتشوف على تدمير العالم. ولم تكن لدي فكرة عن روسيا والاتحاد السوفيتي إلا من خلال التدريبات المدرسية على التصرف إذا وقع هجوم نووي.. والحرب الباردة.
بدأت في سنوات الدراسة الثانوية في بلورة أفكاري حول اصلاح العلاقة مع روسيا، وأنه إذا ما تسنى لنا الاتصال مباشرة مع الروس، فربما نتمكن من خفض التوترات في العلاقة، أو هكذا اعتقدت في ذلك الحين، وحدث أن دخلت السنة الأولى في جامعة ستانفورد
مع دخول رونالد ريغن البيت الأبيض حين كان ينادي بالتصدي لأمبراطورية الشر ومحاربة الشيوعية، وإعادة الولايات المتحدة إلى سابق قوتها و«عظمتها»، وكنت اعتقد ان ريغن رجل خطير، وخشيت أن يؤدي نهجه التصادمي تجاه موسكو إلى اندلاع حرب نووية، كنت اعتقد أنه كان يبالغ في التهديد السوفيتي من أجل اقناعنا بأن الروس يريدون السيطرة على العالم، وكنت أؤمن أن من الافضل التواصل مع الروس بدلاً من تهديدهم، وأننا لو تمكنا من التفاهم لخففنا درجة التوتر بيننا.
إمبراطورية الشر
كنت اعتقد أن أفضل سبيل لذلك هو التفاعل مع الشعب السوفيتي، لذلك ذهبت إلى هناك وزرت ليننغراد في صيف عام 1983 ووجدت أن أمبراطورية الشر لم تكن مخيفة ولا قمعية، صحيح أنه كان عليك الانتظار لساعة كاملة من أجل الحصول على كوب من قهوة الفانيلا مع الشوكلاته لكن لم يبد على الروس أنهم كانوا فقراء أو محرومين، كانت الحكومة الروسية لا تشجع مواطنيها على الحديث مع الزوار الأجانب، لا سيما الأميركيون منهم، ولكني فوجئت أن من تحدثوا إلي والى زملائي الأميركيين كانوا ودودين وفضوليين، هذه الزيارة زادتني قناعة بإمكانية التفاهم والتعاون بين البلدين.
وإذا كانت زيارتي الأولى أكدّت صحة نظريتي عن السلام من خلال التفاعل بين الشعبين فإن زيارتي الثانية عام 1985 قد شككت فيها، هذه المرة زرت موسكو الكئيبة في شهر يناير، وليس ليننغراد في شهر يونيو، فمع تحسن مهاراتي اللغوية وتعدّد اتصالاتي تعمقت في دراسة المجتمع الروسي المتناقض، وكانت الحياة صعبة والنظام فاسدا وقمعيا في قلب الكتلة الشيوعية، ففي هذه الزيارة تسنى لي معايشة الدكتاتورية الشيوعية عن قرب.
نظرية بديلة
الكورس الدراسي في موسكو عزز قناعاتي بشأن أهمية الحرية والليبرالية والديموقراطية، ولم أعد أؤمن أن التفاعل بين الشعبين كاف من اجل التفاهم والتعاون وبدأت أبحث عن نظرية بديلة: التغيير الديموقراطي داخل الاتحاد السوفيتي وحده هو الكفيل بالتقريب بين حكومتينا وشعبينا، وبدت تلك الامكانية بعيدة المنال في شتاء عام 1985، لكنها أصبحت اكثر امكانية مع وصول ميخائيل غورباتشوف الى سدة الحكم.
كنت اعيش في موسكو يوم تسلم غورباتشوف منصبه الجديد كأمين عام للحزب الشيوعي السوفيتي، ولم يتم الاعلان عن هذا التعيين الاّ بعد عدة أيام، كما حدث لدى ارجاء الإعلام الروسي عن وفاة الرئيس تشيرنينكو قبل ذلك، فهكذا تعمل الأنظمة السلطوية الشمولية، كان الانطباع الأول عن غورباتشوف انه يوحي بالأمل وجعل الشباب الروسي يحلم بغد أفضل.
زعيم مختلف
وتولدّ احساس لدى القادة الاميركيين بأن غورباتشوف زعيم مختلف، وتوجه نائب الرئيس جورج بوش ووزير الخارجية آنذاك جورج شولتز إلى موسكو للمشاركة في جنازة تشيرنينكو والتقينا بوزير الخارجية شولتز في مبنى السفارة وكان تقييمه إيجابياً لمستقبل العلاقات مع القيادة الروسية الجديدة، كانت الأوضاع الاقتصادية والمعيشية متردية في شتاء عام 1985 وسمعت تقييماً لبعض الاصدقاء الروس مفاده «أننا نتظاهر أننا نعمل وهم يتظاهرون انهم يدفعون لنا رواتب»!
لقد حاول غورباتشوف أن يفعل شيئاً مختلفاً كان زعيماً يؤمن بالمثالية ولا يقبل بالعالم كما هو، بل حاول التغيير، كان يؤمن بالاشتراكية، لكنه أراد أن يجعلها تعمل بشكل أفضل، هذه المعتقدات قادته إلى اطلاق سلسلة من الاصلاحات الاقتصادية لجعل النظام الاقتصادي الراهن أكثر فاعلية.
في عام 1989 انتخب بوريس يلتسين رئيساً للبرلمان السوفيتي وكان يأمل غورباتشوف أن يحظى بدعم يلتسين الذي كان زعيماً للمعارضة الديموقراطية قبل انتخابه، لمواجهة مؤسسة الحزب الشيوعي التي تمنع الإصلاح، لكن سرعان ما وقف يلتسين وكتلته البرلمانية ضد غورباتشوف.
الثورة حتمية
وبعد أن أصبح المأزق واضحاً بين الحكومتين السوفيتية والروسية لا سيما بعد تصويت مجلس الشعب الروسي على الاستقلال في شهر يونيو 1990، أصبحت أكثر قناعة أن الثورة في الاتحاد السوفيتي أصبحت حتمية.
كانت إدارة بوش تثق بغورباتشوف أكثر من يلتسين وتفضل التعامل معه. كان ينظر إلى يلتسين بأنه شعبوي وانتهازي أكثر من كونه ديموقراطياً متلزماً. فقد سبق له أن أشاد بالمجموعات القومية، الأمر الذي رفع من شعبيته.
التقيت لأول مرة فلاديمير بوتين عام 1991، حين كان يشغل منصب نائب رئيس بلدية ليننغراد لشؤون الاتصالات الدولية.
وكنت عضواً في وفد معهد الديموقراطية الوطني الذي قابل أناتولي سوبشاك رئيس بلدية ليننغراد الجديد، التي سرعان ما تغير اسمها إلى سانت بطرسبيرغ. وكان عضواً مؤثراً وملهماً في الحركة الديموقراطية الناشئة في روسيا. وكان شديد الميول إلى الغرب وأميركا، وأنعش الأمل بديموقراطية روسية وبعلاقات وثيقة بين البلدين.
العدو المعلِّم
ولم يترك بوتين انطباعاً جيداً لدي مثل رئيسه سوبشاك. لقد كان حذراً وغير متحمس ويستصغر الآخرين وشديد الانضباط.
ولا يمكنني أن أحكم من لقاءاتي مع هذا الرجل إن كان يؤيد عمل معهد الديموقراطية الوطني الأميركي أم لا. فقد كان قليل الكلام. لكنه وعد بأن يعمل فريقه على تنظيم ورشة عمل ناجحة، وأوفى بوعده.
فلماذا ينظم بوتين ورشات عمل لتعزيز الديموقراطية يحاضر فيها أناس من طرف العدو الأميركي لكي يعلموا الروس كيف يحكمون أنفسهم؟ وكان معروفاً جيداً آنذاك أن بوتين يعمل لدى المخابرات الروسية (كي. جي. بي) وربما ما زال آنذاك – وأخذ التساؤل يدور بيننا: هل هناك شيء اسمه عميل سابق لـ«كي. جي. بي»؟ أم أن الجهاز زرعه تحت إدارة سوبشاك الذي اعتبروه ديموقراطياً خطيراً؟!
خلصت في نهاية المطاف، إلى أن ذلك ليس مهماً. وكنت مخطئاً في تقديري. كان يحدث تحول روسي نحو الديموقراطية والحرية والعدالة، ووجد جهاز «كي جي بي» نفسه في الجانب الخطأ من التاريخ، وكان الخيار الوحيد للنجاة بالنسبة لبوتين هو أن يلتحق بركب الموجة الديموقراطية.. أو هكذا اعتقدت في ذلك الوقت.
يا ديموقراطيي العالم اتحدوا
في التاسع عشر من أغسطس 1991 نظم المحافظون انقلاباً لوقف تسلم يلتسين للسلطة، وأعلنوا عن وضع الرئيس غورباتشوف تحت الإقامة الجبرية، فوصل يلتسين إلى مقر الرئاسة في موسكو وندد بالانقلابيين ودعا المواطنين الروس إلى التصدي للانقلابيين، فتجمع الروس بأعداد هائلة وحالوا بين دبابات الانقلابيين ومبنى الكرملين، وما هي إلا ساعات حتى انشق بعض قادة الانقلاب وانحازوا إلى صف يلتسين ودعوا الجنود إلى احترام الشرعية. واحتدم الصراع لأيام بين دعاة العودة إلى العهد السوفيتي وأنصار الديموقراطية، وانحسم الصراع لمصلحة الديموقراطيين بعد ثلاثة أثام فقط، فاستسلم قادة الانقلاب، ويعود الفضل الأعظم في إحباط الانقلاب إلى الحركة الديموقراطية الروسية. لقد كان فشل الانقلاب انتصاراً للديموقراطيين الروس ولكل ديموقراطيي العالم.
واجهت روسيا بعد استقلالها تحديات انفصالية ومالية واقتصادية، فقد تراجع الناتج المحلي العام عام 1991 بنسبة 13 في المئة، وتراجع معدل الأجور وارتفع التضخم بنسبة عالية وسجل عجز الميزانية مستوى مخيفاً وتوقف الإنتاج وانهارت التجارة لدرجة توقع بعض الخبراء حدوث مجاعة.
من الاشتراكية إلى اقتصاد السوق
هذه الفوضى الاقتصادية شكلت تهديداً للتحول الديموقراطي، لا سيما بعد أن أدت إلى صعود قوة المتطرفين القوميين، وابلغنا رئيس بلدية سانت بطرسبيرغ (اناتولي سوبشاك) انه «اذا لم تتمكن الحكومة الديموقراطية من وقف التضخم والتدهور في مستويات المعيشة فسوف يكفر الناس بالديموقراطية». واضاف انه لم يعد بالامكان الانحاء باللائمة على الشيوعية السوفيتية عما تعانيه البلاد من مشكلات اقتصادية.
لقد كانت أولى أولوياتنا مساعدة الحكومة الروسية على التحول من الاقتصاد الاشتراكي إلى اقتصاد السوق، وقامت إدارة بوش بشحن المواد الغذائية إلى روسيا وبعض دول الاتحاد السوفيتي المستقلة حديثاً، ونشط خبراء غربيون في مساعدة الحكومة الروسية في البدء بإصلاحات السوق. إذ إن بناء نظام رأسمالي على انقاض 70 عاماً من النظام الاشتراكي، لم يكن بالمهمة السهلة، فضلاً عن كونها عملية غير مسبوقة.
زملائي في المعهد وأنا اتفقنا على أن التحول الاقتصادي والاصلاح الديموقراطي متلازمان، ونصحنا زملاءنا الروس بعقد انتخابات برلمانية بأقصى سرعة ممكنة، لكنهم عارضوا الفكرة، لأن الانتخابات كانت قد اجريت في ربيع عام 1990. وفي خضم انهيار الاتحاد السوفيتي عام 91 نظمنا مؤتمرا تحت اسم «الحكم الديموقراطي في أوقات الأزمات» ناقشنا فيه تجارب أميركا وأوروبا وأميركا اللاتينية وبعد عشرة أيام على هذه الحلقة وتحديداً في 25 ديسمبر 1991، انهار الاتحاد السوفيتي.
مساعدات أميركية
بعد عام 1992، ساد اعتقاد في الولايات المتحدة بأننا انتصرنا في الحرب الباردة وحان الوقت للعودة إلى الاهتمام بالأمور الداخلية الأميركية، حتى أن المرشح الديموقراطي بيل كلينتون آنذاك، انتقد الرئيس بوش على تركيزه المفرط على السياسة الخارجية.
وبعد نجاحه في الانتخابات ادرك كلينتون أهمية الوضع في روسيا، صحيح أن تصحيح العلاقات بين واشنطن وموسكو بدأ مع ريغن وغورباتشوف، لكن ذلك لن يصمد الا إذا نجح يلتسن في تحقيق ثلاثة أهداف: الأول انهاء التدخل الروسي في الخارج، والثاني: تكريس اقتصاد السوق، والثالث: تعزيز الديموقراطية، واعتقد كلينتون انه اذا نجح الديموقراطيون الروس، فإن وجه السياسة الدولية سوف يتغير إلى الأبد، ولذلك قدم عشرات المليارات من الدولارات كمساعدات لروسيا مع حلول صيف عام 1993. ولكن بدا أن المساعدات الأميركية بعد عام ونصف من انهيار الاتحاد السوفيتي كانت قليلة جداً وبطيئة جداً.
روسيا الديموقراطية
كنت آمل أن تطلق هذه اللحظة المأساوية، بداية جديدة لروسيا، أي قطيعة مع الماضي الشيوعي، لكن العقبات أمام التحول الديموقراطي أصبحت جزءا من الدستور الجديد الذي أعده يلتسين وانصاره على هواهم، وخاصة منح الرئيس سلطات قوية جداً على حساب باقي المؤسسات.
في شهر ديسمبر 1993 اجريت الانتخابات البرلمانية مصحوبة باستفتاء على الدستور الجديد، وكانت تلك أول انتخابات تجرى في روسيا المستقلة واطلق الخبراء السياسيون عليها «الانتخابات المؤسِّسة»، وانتعشت معها الآمال بولادة روسيا الديموقراطية.
ولكن المفاجأة أن الأحزاب القومية وغير الديموقراطية تقدمت في هذه الانتخابات، خاصة حزب روسيا الديموقراطي الليبرالي بزعامة فلاديمير جيرونوفسكي، فأخذنا جميعاً نتساءل عن الخطأ الذي ارتكبته الأحزاب الديموقراطية أو الخطأ الذي ارتكبناه نحن الذين أيدّنا وخططنا وقدمنا المشورة لهذه الأحزاب.
كان لقائي الأول بجيرونوفسكي في صيف عام 1991 ولم يبد لي كسياسي جاد، وبدت وجهات نظره غريبة وشاذة وتستهدف كسب الأنصار، وحين تحدثنا عن شقته المتواضعة في موسكو، كان مليئاً بالكراهية والحقد على اليهود والبلقان والقوقاز وشعوب آسيا الوسطى باعتبارهم السبب في كل مشكلات روسيا، وفي محاولة لاستمالتي، تحدث عن حاجة «الشمال» أي البيض إلى التوّحد لمنع «الجنوب» من الهيمنة على العالم.
هتلر وروسيا
ادت الاضطرابات السياسية والصدامات المسلحة والمتاعب الاقتصادية إلى تبخر أجواء التفاؤل بولادة الديموقراطية التي سادت في ربيع عام 1991، وصّب هذا التحرر من الوهم في مصلحة جيرونوفسكي وقوى التطرف القومي، وسادت لدي مخاوف من ان هذا الفوز الانتخابي الكاسح له سيحوله إلى هتلر روسيا، فنقاط التشابه بينهما تتجاوز العنصرية ومعاداة السامية.
فقد انحى جيرونوفسكي باللائمة على الغرب على التسويه غير العادلة التي تمت بين المعسكرين بعد انتهاء الحرب الباردة، وتعهد باعادة دمج ملايين الروس العالقين خارج روسيا من المناطق الموجودين فيها من استونيا إلى كازاخستان، تماماً كما تعهد هتلر بتوحيد كل الألمان الذين كانوا يعيشون خارج حدود ألمانيا، بل ان جيرونوفسكي هدد باستعادة الاسكا واعادة بناء الامبراطورية الروسية والسيطرة على ما يكفي من الأراضي جنوباً للوصول إلى المياه الدافئة.
وتبين لي ان مخاوفي لا أساس لها من الصحة، فطوال ثلاثة عقود من العمل السياسي، نادراً ما تحدى جيرونوفسكي قواعد اللعبة السياسية، بل تعلم كيف يلعب وفق هذه القواعد بنجاح، صحيح ان بعض آرائه دنيئة لكنه اثبت انه ليس فاشياً يسعى للانقلاب على النظام السياسي القائم، وبعد عقدين من الزمن، دعوته -بصفتي سفير الولايات المتحدة في موسكو- للمشاركة في احتفالات السفارة بعيد الاستقلال، ولكن بعد عام 1993، خيمت ظلال من الشك حول مستقبله السياسي.
وبعد تحقيق جيرونوفسكي نصره الانتخابي مباشرة، كان من اللافت رؤية بعض الشبان يرفعون شعارات نازية أو أعلام حمراء أو يؤدون التحية النازية في مسيرات «الوحدة الوطنية الروسية».
نظام فاشي
ولم يكن هؤلاء الساخطون من أبناء الطبقة الوسطى، بل شباب تملؤهم الكراهية ويرغبون في تغيير الوضع السائد، الأمر الذي جعلنا نحن ومعظم المراقبين نشعر بالرعب.
وحذرت في عملي الأكاديمي عقب هذه الانتخابات بأن الاصلاح الاقتصادي دون اصلاح سياسي لن يُكتب له النجاح، وان قيام نظام فاشي غير مستقر ومناهض للغرب، مع ما يمتلكه من ترسانة نووية، سيشكل تهديداً خطيراً للأمن القومي الأميركي، وبالتالي، فمن مصلحة الولايات المتحدة ان تعمل على الحيلولة دون حدوث مثل هذا الاحتمال.
لقد أصابتني نتائج الانتخابات بالصدمة، لقد كانت تقديراتي خاطئة، حيث ان الفاشية لم تُسقط أو حتى تهدد الديموقراطية الروسية، وكان الخطر على الديموقراطية الروسية يأتي من داخلها، وليس من خارجها.
حرب تحرير الكويت
بينما كان «معهد الديموقراطية» يركز على تقديم العون الفني لأنصار الديموقراطية الروس، كان جورج بوش (الأب) وإدارته يركزون على غورباتشوف والحكومة الروسية. فلم يثقوا بشركائنا الروس وكانت لديهم المبررات. فقد كانوا (أي شركاؤنا الروس) يعملون على تقويض حكم غورباتشوف الذي كانت سياساته تصب في مصلحة السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
فالزعيم السوفيتي لم يحاول منع سقوط الأنظمة الشيوعية في خريف عام 1989 أو تدمير جدار برلين أو إعادة الوحدة الألمانية، كما سحب القوات السوفيتية من أفغانستان ومناطق أخرى من الدول النامية، ولم يحاول إعاقة حرب تحرير الكويت، وهكذا، لم تقبل واشنطن بتحدي يلتسين لسلطة غورباتشوف، بالرغم من تودده لإدارة بوش.
رأسان وحكومتان!
في شهر سبتمبر 93 أصدر يلتسين مرسوماً رئاسياً بحل مجلس النواب، والدعوة لانتخابات جديدة تحرك مجلس السوفيت الأعلى متحدياً، وندد بالخطوة التي اتخذها يلتسين باعتبارها غير دستورية واصدر قراراً بعزل يلتسين وتنصيب نائبه اليكساندر روتسكوي رئيساً، وفجأة وجدت روسيا نفسها برئيسين وحكومتين.
وتولى الجيش والشرطة المواليان ليلتسين حماية «البيت الأبيض»، فيما تحصن روتسكوي وانصاره في مقر البرلمان، في الثالث من اكتوبر قرر روتسكوي ومساعدوه انهاء الازمة بدعوة انصاره للسيطرة على مكتب رئيس البلدية المجاور للبيت الأبيض والسيطرة على محطة اوستانكينو التلفزيونية الرئيسية، فرد يلتسن على ذلك، بإصدار الأوامر للجيش بمهاجمة البرلمان، وفي المساء أعلن حالة الطوارئ وأعفى روتسكوي من منصبه كنائب للرئيس، ثم أمر باعتقاله مع رئيس مجلس السوفيت الأعلى رسلان خاسبولاتوف، وعدد كبير من أعضاء البرلمان والنشطاء، ووقعت اضطرابات كبرى قتل فيها 130 مدنياً و28 عسكرياً، اضافة الى اصابة المئات بجروح.
المؤلف مايكل ماكفول هو بروفيسور العلوم السياسية ومدير معهد فريمان سيوغلي للدراسات الدولية في جامعة ستانفورد وباحث في مؤسسة هوفر. عمل في مجلس الأمن القومي في عهد أوباما ثم سفيرا للولايات المتحدة في موسكو. ألف وشارك في تأليف عدة كتب منها: «ثورة روسيا غير المكتملة».
وهو محلل سياسي لمحطة «إن. بي. سي» ويكتب في «واشنطن بوست».
القبس