إسرائيل وتجسسها على الفلسطينيين، إلى متى؟
بقلم: د. سنية الحسيني

النشرة الدولية –

فتحت نتائج التحقيقات قبل أيام والتي أكدت على تورط دولة الاحتلال بالتجسس على ناشطي حقوق إنسان فلسطينيين يعملون في مؤسسات وصمتها إسرائيل نهاية الشهر الماضي بـ «الإرهاب» ملف تاريخ إسرائيل المثقل بعمليات التجسس والتتبع والمراقبة عموماً على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، لتكبل حياتهم وتأسرهم تحت سلطة ورقابة احتلال دائم، وسجن كبير. وتزامن نشر نتائج التحقيقات مع إدراج الولايات المتحدة على القائمة السوداء اثنتين من شركات إسرائيلية متهمة بتصدير تقنيات القرصنة والتجسس لدول أخرى، كما أنها وجهت مؤخراً انتقادات لحكومة الاحتلال تتعلق بالاستيطان، وطرحت تساؤلات حول تصنيف إسرائيل لمنظمات حقوق الإنسان الفلسطينية الست بالإرهاب، إلا أنه من غير المتوقع أن توقف واشنطن إسرائيل عند حدها وتنصف الفلسطينيين. وتعكس نتائج اجتماع مجلس الأمن قبل يومين، والذي تناول خروقات إسرائيل في فلسطين المحتلة تجاه الاستيطان وتصنيف منظمات حقوق الإنسان، حقيقة ذلك الموقف السلبي للولايات المتحدة تجاه الفلسطينيين.

وقد ثبت تورط الشركتين الإسرائيليتين وهما مجموعة NSO وCandiru في بيع تقنيات تجسسية لدول تتهم بالاستبداد، الأمر الذي اعتبرته الولايات المتحدة متعارضاً مع أهداف سياستها الخارجية وأمنها القومي. وتُعدّ إسرائيل موطناً لعشرات الشركات المصنعة لبرامج القرصنة والتجسس، والتي تعمل في إطار قطاع صناعة التكنولوجيا الفائقة، والذي يعد من الصناعات الرئيسة في إسرائيل. وتنشط في إسرائيل 27 شركة متخصصة في الرقابة، إذ يعد ذلك الأكثر على مستوى دول العالم مقارنة بعدد السكان. وفي عام 2014 تجاوزت صادرات إسرائيل من تكنولوجيا الرقابة الأمنية الالكترونية صادراتها من المعدات العسكرية، وبلغت قيمة صادرات هذا القطاع وحده في ذلك العام ستة مليارات دولار. ويرتبط هذا النوع من الشركات الإسرائيلية بأجهزة المخابرات في دولة الاحتلال، إذ خدم غالبية مستشاريها ورؤسائها وتقنييها في الجيش، وتحديداً في الوحدة 8200، قبل أن ينتقلوا إلى مثل هذه الشركات.

وجاء التصنيف الأميركي بعد ثلاثة أشهر من كشف مؤسسة فرنسية عن حالات تجسس على صحافيين ونشطاء في عدد من الدول، باستخدام برنامج Pegasus الذي تنتجه مجموعة NSO والذي ثبت أنه اخترق أيضاً حساب الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وأعضاء حكومته. ويمكّن هذا البرنامج مستخدميه من اعتراض المحادثات الهاتفية والنصوص والصور وأي مواد موجودة على هواتف المستهدفين، كما يمكنه تحويل الهاتف إلى جهاز استماع من خلال تشغيل الميكروفون، دون علم مالك الجهاز، وهو ما تم الكشف عنه مؤخراً، وكانت منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية من ضحاياه. وكانت قد اتهمت مجموعة NSO الاسرائيلية قبل ذلك بأنها انتجت تقنيات تجسسية عام 2019، مستغلة ثغرة أمنية في تطبيق الواتساب، والتي تم الإعلان عن تداركها في وقت لاحق من ذلك العام، واستخدمت لاختراق حسابات نشطاء، منهم حساب محامٍ يقيم في بريطانيا، شارك في إعداد دعاوى قضائية ضد إسرائيل. وتعتبر شركات مثل واتساب ومايكروسوفت هذا النوع من البرامج التجسسية التي تصنعها الشركات الاسرائيلية بأنها تشكل تهديداً لسلامة مستخدميها. ولا تزال هناك قضية ترفعها شركة واتساب على مجموعة NSO في محكمة أميركية حتى الآن.

ويستخدم القراصنة الالكترونيون أيضاً برامج تجسس من إنتاج شركة Candiru الإسرائيلية، التي تعد من أكثر الشركات سرية في إسرائيل، لاختراق مايكروسوفت وويندوز وأجهزة أبل، خصوصاً أجهزة الكمبيوتر والبنية التحتية للشبكات والأجهزة المتصلة بالانترنت، وتستهدف مدافعين عن حقوق الانسان وصحافيين ومعارضين وسياسيين ودبلوماسيين، وذلك باستغلال ثغرات أمنية في مايكروسوفت وبعد اكتشاف برامج Candiru التجسسية في اختراق أجهزة الكمبيوتر لنشطاء حقوق انسان ووسائل اعلام مستقلة في أمكان مختلفة من العالم، وأقرت مايكروسوفت بأنها بدأت باصدار تحديثات لحماية مستخدمي الويندوز واعتبرت مؤسسة Citizen Lab في جامعة تورينتو بأن هذه البرامج تعد قرصنة وغير القانونية.

ضمن النهج الصهيوني الذي لم يتغير الا بالأدوات، ركزت الحركة الصهيونية على التجسس على الفلسطينيين، فأسست عام 1918 مكتب المعلومات بهدف مراقبة الفلسطينيين والتجسس عليهم، وبدأ عمله برصد أملاك الفلسطينيين وأراضيهم، ومراقبة نشاط ونشطاء الحركة الوطنية الفلسطينية، التي بدأت تحركاتها في أعقاب الحرب العالمية الأولى. كما وضع مكتب المخابرات في القسم السياسي التابع للجنة التنفيذية في المنظمة الصهيونية في فلسطين منذ عام 1920خطة من أجل التلاعب بالاختلافات بين الفلسطينيين، لإثارة النزاعات والانقسامات بينهم. بعد احتلال اليهود للأراضي الفلسطينية عام 1948 وإجبار معظم الفلسطينيين على الخروج من أرضهم، أخضعت إسرائيل من تبقى منهم تحت سيطرة ورقابة أمنية مكثفة، ومارس جهاز الأمن الإسرائيلي «الشاباك» الذي تأسس عام 1949، دوراً رئيسياً في ممارسة تلك الرقابة. بعد احتلال ما تبقى من أرض فلسطين عام 1967، أخضعت إسرائيل الأراضي الفلسطينية لسلطة احتلال عسكري، فطورت من أساليبها في التجسس والرقابة والمتابعة للفلسطينيين. واليوم تثبت سياسة الاحتلال الأمنية والقائمة على فرض رقابة مكثفة وتتبّع مبرمج للفلسطينيين، عبر التجسس على الهواتف النقالة وغير النقالة، وأجهزة الكمبيوتر، ووسائل التواصل الاجتماعي، ورصد تحركاتهم عبر الكاميرات، على أنها تكمل مخططاتها الصهيونية في أنحاء الضفة الغربية، لتدجينهم وتعجيزهم والتحكم في مستقبلهم.

تخضع أراضي الضفة الغربية بكاملها لنظام مراقبة محكم، عبر شبكة مغلقة من الكاميرات التي تغطي جميع شوارعها الواصلة بين مدنها وقراها، سواء كانت الشوارع التقليدية الموجودة عبر السنوات الطويلة الماضية، أو كانت تلك الطرقات الضخمة التي بدأت إسرائيل بتشييدها منذ عام 1996، لتسهيل حركة المستوطنين في الضفة الغربية ومع إسرائيل في الأساس، ويستخدمها الفلسطينيون أيضاً ضمن حدود الحركة المسموح لهم فيها، والتي تربط جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة عرضياً وطولياً، من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، في تجاهل تام لوجود أي حدود بين أراضي الضفة الغربية وباقي أراضي عام 1948. كما تنشر إسرائيل كاميرات المراقبة على الطرقات التقليدية التي اعتاد الفلسطينيون على استخدامها عبر السنوات الطويلة، والتي تربط المدن والقرى الفلسطينية ببعضها البعض. وتخضع الطرقات الواصلة بين المدن والقرى الفلسطينية، حسب اتفاق أوسلو، لتصنيف «ج» أي تسيطر عليها إسرائيل بشكل كامل أمنياً وإدارياً، على الرغم من أنها تربط بين المدن والقرى الفلسطينية المكتظة بالسكان، والمصنفة حسب ذلك الاتفاق بمناطق «أ» و»ب»، أي تقع تحت ادارة السلطة الفلسطينية. كما تثبت إسرائيل كاميرات الرقابة بكثافة في الضفة الغربية حول المستوطنات وعند تقاطع الطرقات وفوق الجسور، وعند نقاط التفتيش والحواجز الرئيسية التي تصل أراضي الضفة الغربية بأراضي 1948.

وتعتبر الكاميـرات من تقنيـات الرقابية التي تأثرت كثيراً بالتطـور الالكتروني، الأمر الذي استغلته إسرائيل بشكل مبرمج لتقييد حرية الفلسطينيين وتتبع حركتهم. ولفتت صحيفة واشنطن بوست هذا الأسبوع النظر إلى ممارسات جيش الاحتلال في الأرضي الفلسطينية، اذ اعتبرته الصحيفة أنه يبذل جهوداً جبارة لمراقبة الفلسطينيين من خلال شبكة تتبع واسعة عبر الكاميرات والهواتف الذكية. ومن أهم تلك التقنيات التي تستخدمها إسرائيل اليوم للتجسس وملاحقة الفلسطينيين، ما كشفت عنه وسائل إعلام أميركية خلال صيف عام 2019، بإضافة تقنية مسح وتحديد الوجه على كاميرات المراقبة. ويأتي ذلك ليلحق بما تم الكشف عنه عام 2018، حول إمكانية تعرف الكاميرات على الوجه عند نقاط التفتيش في الضفة الغربية، والتي يمكنها أيضاً التعرف على المركبات، حتى بدون تسجيل لوحات الترخيص، لمطابقتها مع أصحابها. وتطبق إسرائيل سراً نظام التعرف على الوجوه لمراقبة الفلسطينيين في الضفة الغربية، منذ عامين، باستخدام تقنية الهواتف الذكية المسماة Blue Wolf الموجودة على هواتف الجنود المنتشرين في المناطق المحتلة، ولا تكتمل فكرة عمل هذا البرنامج الا إذا عرفنا أنه يرتبط بقاعدة بيانات ضخمة لملفات جميع الفلسطينيين المتواجدين في الضفة الغربية تسمى Wolf Pack أي أن الجندي لا يحتاج للنظر في هوية الفلسطيني للتعرف على شخصيته.

كما قام الجيش الإسرائيلي بتركيب كاميرات مسح ضوئي للوجه في الخليل لمساعدة الجنود على التعرف على الفلسطينيين عند نقاط التفتيش. ويوفر الاحتلال في الخليل شبكة أوسع من كاميرات الدوائر التلفزيونية المغلقة، لمراقبة سكان المدينة ومنازلهم، بعد أن ثبّت كاميرات مراقبة كل 300 قدم، بما في ذلك على أسطح المنازل، والتي وصفها جيش الاحتلال في مقال نشره العام الماضي بـ «مدينة الخليل الذكية»، والذي اعتبرها أحد سكان الخليل سبباً مباشراً يمكن أن يجبر سكان المدينة على الرحيل منها، في ظل مجتمع المدينة المحافظ. ولا يعتبر حال مدينة القدس العتيقة أفضل من مدينة الخليل، اذ نشرت شرطة الاحتلال كاميرات ذكية في أنحاء المدينة منذ عام 1999، بهدف تتبع الفلسطينيين وتحركاتهم، كما أنشأت عام 2011 نظـام مراقبة أكثر تطوراً عن طريق وضع أكثر من 1200 كاميرا للمراقبة في أنحاء المدينة بعد أن أطلق عليها «المدينة الآمنة».

رغم وضع الإدارة الأميركية مجموعة NSO وشركة Candiru على قائمتها السوداء، والذي يعني عدم قدرة هاتين الشركتين على شراء مواد أميركية للتصنيع، من دون ترخيص خاص، كما قد يؤثر ذلك القرار على مبيعاتها للولايات المتحدة ودول أخرى. الا أن الولايات المتحدة قد أكدت في بيان لاحق أنها لن تتخذ اجراءات ضد الدول أو الحكومات التي استخدمت تلك التقنيات التجسسية. وليس من المتوقع أن يكون لذلك القرار عواقب كبيرة أو دائمة على هاتين الشركتين بما يؤثر على نشاطهما، إذ سيبقى القرار رمزياً، طالما بقي الشركاء الماليون والحكومات الغنية على استعداد للعمل معهما. كما أن الولايات المتحدة تتعاون بشكل مكثف مع إسرائيل في مجال القرصنة الإلكترونية، وكان للبلدين جولات مشتركة في مواجهة إيران. وتعكس سياسات الإدارة الأميركية عموماً عدم جديتها تجاه الفلسطينيين، اذ لم تلتزم بإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس، بما يتعارض عملياً مع رؤيتها المعلنة لحل الدولتين، كما أنها تقف عاجزة عن ردع سياسات الاحتلال الاستيطانية المستمرة، مكتفية بإدانتها، يأتي ذلك على الرغم من أنها الجهة الوحيدة التي تمتلك أدوات لإقناع إسرائيل، الأمر الذي يشكك بنواياها.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى