الذكاء ليس منتجا
بقلم: كرم نعمة
النشرة الدولية –
لقد اكتشفنا بعد منتصف العمر، أن الفكرة السائدة عن الذكاء التي كان يرسمها لنا المعلمون في الصغر، لا يمكن أن تصنع في المختبرات المدرسية.
فبينما كانت المجتمعات القديمة تضفي المزيد من الإعجاب على الشجاعة والبراعة اليدوية، فإننا بتنا نحكم على ما يحصل عليه التلميذ من معدلات دراسية، مقياسا للذكاء. صحيح أن التفوق الدراسي يعبر بوضوح عن رجاحة العقل لكنه لا ينتهي بشكل مطلق إلى الذكاء والإلهام.
كثيرا منا عاش صراعا مع نفسه في مقتبل حياته من أجل الشهادة الجامعية، بينما الهدف كان المزيد من الذكاء والظفر بوظيفة براتب مرتفع. لكن سؤال ماذا بعد الشهادة الجامعية، يقربنا أكثر من الوصول إلى الناس الأذكياء. مثلما يعرفنا أكثر على غيرهم.
هناك مبالغة أكثر مما ينبغي بشأن اختصار الذكاء في الأداء الأكاديمي، الشهادات الجامعية إن لم تقترن بمنتج قادر على صناعة الأفكار الملهمة، ستبقى مجرد أوراق لا تعبر عن أي حقيقة.
تعتبر المؤهلات الأكاديمية جذابة لأنها تبدو وكأنها تقدم بيانا نهائيا مطمئنا للقيمة في شكل رقم أو حرف مرتبطا بالكياسة والعلو الاجتماعي. لكن الصرح الكبير للإنجاز الأكاديمي الذي تُبنى عليه الكثير من تقدير الذات للنخبة مهتز.
لقد نسينا أن الذكاء هو خاصية بشرية وأن الارتباط بين الذكاء والقيمة الإنسانية واضح في كل مرحلة من مراحل الحياة.
كان أحد الزملاء الذي سبقني في دراسته العليا، يتعاطف معي كثيرا وهو يرى اندفاعي المستمر بين الدراسة والعمل في وقت واحد. ولطالما قال “خفف الوطء على نفسك لن تحقق كل شيء بدراستك الجامعية”. واليوم أستعيد تلك الكلمات بعد أكثر من عقدين من سماعها، كي أدافع عن فكرتي بأن الذكاء ليس صناعة أكاديمية. زميلي السابق يتبوأ اليوم مكانة مرموقة سياسيا وماليا، لكنها لا ترتبط بشهادته الجامعية العليا.
الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن العديد من الأشخاص ذوي التعليم العالي اعتادوا على ربط الذكاء تلقائيا بالتفوق الأخلاقي.
هذا المقال ليس دعوة مضادة للدراسة الجامعية، فإنها ستبقى الهدف الأسمى للإنسان، لكن كلية الطب لا تخرج أطباء من دون أن يطوروا أنفسهم بأنفسهم بعد التخرج، وكلية الهندسة تمنحك الشهادة والمعرفة، وعليك لكي تكون مهندسا أن تعرف كيف تستخدمها في الورش.
يتفق علماء الإدراك بشكل متزايد على أن أنواع الذكاء المقاسة في الامتحانات محدودة إن لم تكن تعسفية. قد تختبر الدورات الأكاديمية الذكاء التحليلي المتعلق بالتخطيط وحل المشكلات، ولكنها لا تساهم كثيرا في تطوير أنواع أخرى من الذكاء، على سبيل المثال، الذكاء العملي الذي يتعلق بـ”المعرفة الضمنية” لكيفية عمل الأشياء وكيفية الحصول على إنجازها.
اليوم، وبعد ثلاثة عقود من العمل الصحافي، لست متأكدا أن جميع الذين حصلوا على شهادة جامعية من كليات الإعلام أضحوا صحافيين بالمعنى الأبسط للعقل التحليلي!