“نسيم أرز هزني”… اللبنانيون في الأردن نسب ومصاهرة وهجرات ونفوذ

النشرة الدولية –

في ظاهرة لافتة في الأردن، لا يمكن أن ترى سيطرة ثقافة بلد معين مثل ما تفعل الثقافة اللبنانية هنا في الأردن.

ربما لا يختلف اثنان على حجم التأثير الذي أحدثته، وتحدثه، الثقافة اللبنانية في النسيج الثقافي للأردن الرابض على تخوم البادية، والواصل بين ملتقى حواضر الشرق العربي. وهذا التأثير جاء لأسباب يصعب حصرها، لكن أبرزها يتمظهر في تعمق أواصر النسب والمصاهرة والهجرات المتلاحقة للبنانيين منذ مطالع القرن الماضي، والأعداد الكبيرة للأردنيين الذين نهلوا العلم من الجامعات اللبنانية منذ أربعينات القرن العشرين.

ويظهر مدى تعلق الأردنيين بلبنان جليّاً على لافتات الدكاكين التي تحمل أسماء مناطق لبنان وأدبائه وفنانيه، وفي صوت الراديو الذي يمتلئ بألحانٍ وأصوات لبنانية، تبدأ بالسيدة فيروز والرحابنة ولا تنتهي بالشحرورة و”الأستاذ وديع” وملحم بركات… وكثيرين غيرهم.

“يحتل لبنان مكانة مميزة عند الأردنيين”، يقول القائم بأعمال السفارة اللبنانية بالوكالة جورج فاضل لـ”النهار العربي”. وهو لا يقتبس هذه المعلومة من دراسة بحثية أو دار قياس رأي عام، وإنما من ملاحظة شخص متفحص يرصد العلاقات بين مواطنيه في هذا البلد ويسعى الى تطويرها.

يصل عدد اللبنانيين المقيمين في الأردن اليوم الى نحو 11 ألف لبناني ولبنانية، يقطن جلّهم في العاصمة عمّان، وفقاً لفاضل، الذي ينبه إلى أن أعداد اللبنانيين الذي جاءوا إلى الأردن خلال العامين الأخيرين مع تصاعد حدة الأزمات في لبنان “تضاعفت مقارنة مع سنوات ما قبل عام 2019”.

“لكن أعداد الأردنيين من أصول لبنانية أكثر من ذلك بكثير” يوضح فاضل. بل إن تأثيرهم السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي في الدولة والمجتمع الأردنيين أكثر عمقاً.

وعلى الرغم من قلة عدد اللبنانيين الذي يقطنون الأردن، مقارنة بدول أخرى مثل سوريا ودول الخليج، إلا أن الوجود اللبناني حاضر بقوة في مختلف أنحاء الأردن من شماله إلى جنوبه.

أحد أشهر المقاهي الشعبية في مدينة الزرقاء، ثاني أكبر المدن سكاناً، القريبة من العاصمة، يحمل اسم “الروشة” ويحتل مكانة مهمة لدى سكان المدينة، إذ يحمل لفظه دلالة لاسم غير معتادين على سماعه في إيقاع اللهجة الأردنية، إضافة إلى أن الكثيرين يعرفون صخرة الروشة حق المعرفة.

ليس الحاضر اللبناني وحده الذي يحظى بحصة في ذاكرة الأردنيين، فصخرة الروشة التي ارتبطت بالمقهى، يُقابلها “زحلة” و”لبنان”، المتنزهان العالقان في ذاكرة الأجداد والآباء منذ ستينات القرن الماضي.

المتنزهان اللذان يحملان اسمين لبنانيين، كانا متنفساً لأهالي العاصمة عمان وضواحيها ويقعان في مدينة “الرصيفة” التي تربط العاصمة بالزرقاء.

“كان متنزه لبنان مكاناً للسهر يأتيه الناس من مختلف الأماكن والفئات، وحتى من الأمراء العرب، ويستضيف أشهر الفنانين”، بهذه الكلمات يلخّص كمال عبدالصمد، الأردني من أصل لبناني، الذي يسكن في المنطقة، تاريخ هذا المتنزه الذي عمل فيه فترة طويلة.

أسس هذا المتنزه أكرم ذبيان المتحدر من إحدى العائلات اللبنانية التي جاءت إلى الأردن منذ أربعينات القرن المنصرم، لكن مع مرور الزمن والتوسع العمراني وتغير ثقافة المجتمع أغلق أبوابه، وفق عبدالصمد.

وبعد مرور أكثر من 30 عاماً على إغلاق المتنزه أقيمت على أنقاضه قاعة للاحتفالات والمناسبات تحمل اسم “لبنان” ولكن لمّلاك آخرين، ما يدل الى أن حضوره لا يزال قوياً في وجدان أبناء المنطقة اللبنانيين والأردنيين وغيرهم.

وبما أن الحاضر امتداد للماضي، فقد قدم عام 2004 نديم القبوات للعمل في أحد المصارف اللبنانية في عمّان، وكان قراره آنذاك “العمل ثلاث سنوات في عمان ومن ثم العودة إلى لبنان”.

اليوم وبعد انقضاء 17 عاماً، أصبح القبوات مديراً عاماً للمصرف وازداد تمسكاً أكثر بالأردن، “قطاع المصارف في لبنان منهار، ما بفكر ارجع على لبنان في الوقت الحالي”.

أثناء حديثه إلى “النهار العربي” لا ينفك القبوات عن استرجاع بلده والحنين إليه، والتغني بالأردن وهو يستذكر مواقف المملكة الأردنية الأخيرة مع اللبنانيين ومن بينها التفاوض من أجل إيصال الكهرباء والمساعدة في إطفاء الحرائق المضرمة أخيراً، وحتى الحرائق السياسية منها.

نيران لبنان الاقتصادية والسياسية غير المنتهية أطفأت رغبة هلا نحاس في البقاء في لبنان، وبخاصة بعد أزمة جائحة كورونا وتبعاتها، إذ ترى أن الطريق مغلق أمام اللبنانيين.

لذلك انتقل  للعمل في عمّان بعدما وجدت فرصة في إدارة أحد الفنادق، “وإذا الأوضاع تحسنت سنتين وراجعة على لبنان، وإذا لأ؛ رح نضل بالأردن”.

لا تريد هلا الابتعاد عن أهلها، لذلك اختارت عمان منذ أربعة أشهر مكاناً للسكن وللعيش لها ولعائلتها الصغيرة، لقربها من بلدها، ولأنها “اجتماعياً عمان بتشبه لبنان”.

وتقول مصادر خاصة لـ”النهار العربي” أن الحكومة الأردنية سهلت إجراءات الإقامة للّبنانيين، وهذا ما لاحظه القبوات وهلا وأصدقاؤهما، الذين وجدوا أن سهولة الإجراءات التي يحصل عليها اللبناني وحسن التعامل معهم يجعلهم يشعرون بأنهم مثل أي مواطن أردني.

وهم لا يستغربون هذه المعاملة من الأردنيين حيال اللبنانيين، فأول رئيس حكومة أردنية منذ نشأة المملكة عام 1921 هو اللبناني رشيد طليع، ورئيس الوزراء في النصف الأول من القرن الماضي عبدالمنعم الرفاعي هو من مواليد صور. وتسلم ثلاثة آخرون نت آل الرفاعي منصب رئاسة الحكومة، وغيرهم كثير ممن تقلدوا مناصب وزارية وحكومية على مدى المئة عام من عمر المملكة.

ولا يقصر الأمر على السياسة، ففي التجارة والتعليم والطب كان للبنانيين إسهامات لافتة، وهناك العديد من الأسماء اللبنانية التي حفرت اسمها في شتى المجالات في الأردن، مثل جد رهام القادري.

تروي رهام لـ”النهار العربي” حكاية جدها الطبيب نصوحي القادري الذي قدم إلى الكرك (جنوب البلاد) في عشرينات القرن المنصرم من أجل العمل في التعليم، وما لا تخفيه رهام أنها أردنية وذات انتماء أردني. وفي الوقت ذاته، لا تنكر القادري قوة شعورها بـ”لبنانيتها” وارتباطها العميق بلبنان الذي توطد من خلال زيارات أقربائها المستمرة.

وخلافاً لإخوتها، نقلت هذا الارتباط التاريخي بلبنان إلى أبنائها، إذ تعتقد أن التمسك بالهوية والجذور له انعكاس واضح على نجاحهم في شؤون الحياة التعليمية والاجتماعية وحتى الاقتصادية.

ويروي فؤاد أبو حمدان، رئيس الجالية اللبنانية في الأردن، لـ”النهار العربي” تاريخ العلاقات بين البلدين التي بدأت منذ تواجد بعض اللبنانيين قبل تأسيس الدولة الأردنية، ومرحلة التأسيس التي جعلت العديد من اللبنانيين يُقبلون على العيش في الأردن.

وترافق هذا الأمر، مع حاجة الملك المؤسس عبدالله الأول إلى خبرات بعض اللبنانيين الذين تخرجوا في الجامعة الأميركية في بيروت، التي تأسست عام 1864، أي قبل مئة عام من تأسيس الجامعة الأردنية، بحسب أبو حمدان.

وانتقل بعدها للحديث عن مرحلة الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، التي انتقل على أثرها العديد من اللبنانيين إلى الأردن واستقروا فيه، ومن ثم مرحلة الأزمة الأخيرة التي يعيشون على أنقاضها حتى اللحظة.

ويتابع أبو حمدان حديثه ويقول: “في الأردن 65 لبنانياً يتسلمون مناصب إدارية (مدير عام)، و105 مؤسسات خاصة وأربعة مصانع أصحابها لبنانيون”.

بعد انفجار مرفأ بيروت المؤلم يوم 4 آب (أغسطس) 2020 اصطبغت مواقع التواصل الاجتماعي الأردنية بألوان العلم اللبناني واقتباسات من ناشطين وناشطات تشد من عزيمة اللبنانيين وتواسيهم.

وفي ذات السياق، لم ينسَ اللبنانيون الأردن، فمع فيروز تصدح حناجر ملايين الأردنيين بكلمات أغنية “عمّان في القلب” ويرددون مع صوتها قصيدة الشاعر سعيد عقل “أردن أرض العزم” التي انطبقت كلماتها “شيمٌ أقول نسيم أرز هزني” على كمال ونديم وهلا ورهام وغيرهم من اللبنانيين الذين استقروا في الأردن عبر المئة عام الماضية.

النهار العربي – نديم عبد الصمد

زر الذهاب إلى الأعلى