عالم بلا ذاكرة
بقلم: سعد بن طفلة العجمي

"تخيل لو أن ذاكرة البشرية تلاشت تماماً بما فيها من أحداث عظام وحوادث جسام وطرائف ومنجزات"

النشرة الدولية –

جاء إلى جنوب إسبانيا وعمره 21 سنة. لا يتذكر كيف أتى إليها، هكذا قالوا له. كان من مانشستر، لكنه لا يتذكر شيئاً عنها ولا عن ولادته أو طفولته، ولا عن بيته الذي ترعرع فيه أو أقرانه أو أولاد حارته، ولا يتذكر زوجته وطفليه، بل لا يتذكر من هي زوجته التي تعرف إليها مجدداً بعدما أقنعته أنه زوجها وأنها زوجته. لا يتذكر زواجهما، فأقاما حفلة زواج رمزية صغيرة، كل ذكريات الغزل الأولى من الحب والقبلة الأولى والمداعبة الأولى غير موجودة في عقله. تخيل أنك لا تتذكر أولادك في سني طفولتهم وأنت في عمر الشباب المبكر! أي شعور شعر به هذان الطفلان؟ هل كان شعوره الأبوي تجاههما كشعور أي أب يعرف أبناءه؟

لا يتذكر أي مدارس درس بها ولا الكلية التي تخرج فيها، بل إنه لا يتذكر القراءة والكتابة، اضطُر إلى أخذ دروس يتعلم بها القراءة والكتابة والحساب من جديد. وأعاد دراسته للتربية الرياضية والعلاج الطبيعي، لقد بدأ حياته من جديد، من الصفر أو بالأحرى من الولادة من جديد لشاب يافع مفتول العضلات وقوي البنية ونَظِرٍ “كنّه قعود” – في توصيف البدو.

توقف قلب “جارث” فجأة لمدة 22 دقيقة، وأُعلنت وفاته على لسان الطبيب من أول وهلة لمعاينته، وقبل كتابة شهادة الوفاة، عاد قلبه إلى النبض مجدداً بمعجزة نادرة، وعاد إلى الحياة بعد أسابيع غيبوبة قضاها على الأجهزة في المستشفى، لكنه عاد كيوم ولدته أمه. شرح لي طبيب صديق الفرق بين الذبحة القلبية والنوبة القلبية، لكني لم أفهم الفرق بينهما.

ذهبت بي الأفكار أقلّبها، بين التعاطف مع هذا الرجل الذي بلغ الخامسة والأربعين اليوم، لكن ذاكرته عمرها نصف عمره فقط، وبين تساؤل غريب انتابني: يعيش جارث اليوم بلا ذكريات – الجميلة منها والقبيحة، لكنه يعيش بلا أحقاد وبلا عقد وبلا أمراض نفسية كان يمكن أن يعاني منها لو أنه يسترجع ذكريات طفولته. يجادل علم نفس الطفل الحديث بأن مرحلة الطفولة هي مرحلة تشكيل بقية عمر الإنسان نفسياً، لذلك أصبح علم نفس الطفل علماً قائماً بذاته في القرن الماضي فقط. يعيش جارث بلا طفولة، بالتالي هو بلا عقد نفسية أبداً. هل يعيش الإنسان نقاءً نفسياً لو أنه فقد كل ما تشكل في طفولته من أحداث وحوادث ولعب وصداقات وذكريات وأحقاد وعقد وصدمات؟

ذهب بي التساؤل بمسح ذاكرة الشعوب والقادة والأمم، مازحت بتساؤلي هذا صديقاً، قلت له: تخيل لو أن ذاكرة البشرية تلاشت تماماً بما فيها من أحداث عظام، وحوادث جسام، وطرائف ومنجزات ومعارف وقصص وسير وأساطير وملاحم ومعارك وحروب ومآسٍ وشعر ونثر وموسيقى ومسرح ومشاهير وشخصيات تاريخية عظيمة وسقيمة! وبدأنا كما بدأ جارث تماماً، بشر بلا طفولة، بشر لم يتشكل وعيها بما وجدت آباءها عليه، أمم تختار طريقها ومسارها وتحدد مصيرها وفق واقعها الذي عاشته للتو – الآن، وليس وفق ما تحدد قبل مئات وآلاف السنين.

سخر صديقي من التساؤل لاستحالته بالطبع، لكنه قال إن تراث الأمم الذي يشكل وعي الإنسان فيها موجود في أرشيف اللغة والكتب، فهي ذاكرة الإنسان منذ قديم الزمان، ولا يمكن أن تتخلص من هذا الإرث الهائل. فقلت: لكن فكر الإنسان يتشكل في طفولته، ولن نورث الأطفال شيئاً كما ورثناه، بل عليهم أن يبدأوا التعليم من الصفر، والكتب والتراث سيقرأها الإنسان الجديد الذي فقد ذاكرته بموضوعية وتجرّد، لا بتقديس مسبق يغمض عينيه عن حقائق تقهقه على بعض ما فيها. والكبار لن يورّثوا الأطفال ما ورثوه من آبائهم من أحقاد وكره وضغينة ضد الآخر، ولن يسردوا عليهم خزعبلات الماضي التي يقدسونها لأن آباءهم قدسوها. وسنخلق عالماً جديداً وإنساناً بلا ذاكرة، هو عالم جارث الذي يعيش بلا ذاكرة وبلا ذكريات.

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى