أرنب القمر
النشرة الدولية –
الحرة –
آلى حميدي –
“أعطني السم، لست مهتما بالخلاص من السجن، الحياة خارجا تحزنني”
بثقة تامة وصوت متزّن، لا يتخللها أي شك. وبثبات جسدي صارم، قالها جالسا على كرسي الإعدام (طواعية، متسللا وحده إلى غرفة “القصاص”) مرتديا على رأسه القبعة الكهربائية في محاولة بائسة للانتحار صعقا، بعد أن كُشِفَ سره من قبل حارسة السجن الشابة، والموديل الوحيد العاري لـ “موسيس روزنتالا” حبيس سجن/ مصح الأمراض العقلية (طبيعة الفضاء غير واضحة) تناوله بشكل يومي، جرعات قليلة من سائل التربنتين الذي كان يستخدمه في “التخفيف” من ثقل الألوان الزيتية المنتهية أخيرا على شكل لوحات تجريدية.
أشعر به وأنا جالسة على كرسي السينما غير المريح، في الصف الثالث يسارا. جالسة وهواء السينما المتجدد المُصفّى، يتقافز في رئتي بخفة نشارة الخشب، كأنهما ترامبولين. من دون أي قبعة تصعق قشرة دماغي. طعم السم على أطراف لساني نزولا إلى أسفل السٌرّة، محاطة بفضاء مليء بـ fans “ويس أندرسون” وصدى صوت سحق البوشار.
أفهم رغبة “موسيس” في تناول السم كـ طريقة مُثلى للتخلص من الوجود. أعني إن قررت التخلص من “جسدي” يوما ما، سيكون السم الخيار الوحيد. لا رمي من شاهق وانتشار تلافيف دماغي على أسفلت الرصيف (إن حالفني الحظ واخترت المكان الصحيح) أو قفز نحو قطار مسرع يلصق عظامي ولحمي بسكة الحديد، أو كسر سلسلة فقرات رقبتي، فقرة تلو الأخرى بحبلٍ ملتو، معلق على سقف مطلي بدهانٍ رخيص. أو تصويب مسدس على دماغي فلا يبقى منه إلا الربع، أو شحمة صغيرة من الأذن، أيضاً بالاعتماد على الحظ ونوع المسدس وطريقة التصويب في تلك اللحظة.
سيناريوهات مرعبة، لا شكرا، أفضل السم، سائلا بلا لون أو مسحوقا أو قطرات صغيرة تحت اللسان، القليل من اللون الأزرق الأرجواني على شفتيّ وكامل جسدي كل ما أرغب أن “يُرى” إن تخلصت منه ونجوت بنفسي الأخرى (إن وجدت).
يعلو اللون الأرجواني المزرق، مسحة خفيفة على سطح أظافيري العشرة. “الآن؟” الساعة الثالثة وتسع دقائق، ال22 من نوفمبر. ابحث في غوغل تظهر العديد من العوامل المسببة لهذه المسحة، أتجاهل معظمها واختار “يعلو اللون الأرجواني المزرق على الأظافر البشرية بسبب صعوبة وصول الأوكسجين إلى أطراف الجسم بسبب البرودة القصوى في الطقس” أعود إلى هنا وأكمل الكتابة بأصابعي الأرجوانية المزرقة على الكيبورد الخالي من الأحرف العربية التالي:
“روزنتالا” الشخصية الأساسية في سردية عنوانها “التحفة الخرسانية” وهي واحدة من الفصول الثلاثة المؤلف منها الفيلم، لا سياق واحدا أو مفهوما مشترك بينها، في محاولة من المخرج “ويس أندرسون” خلق محاكاة بصرية لـ أقسام الجريدة المبني عليها الفيلم أساسا، للدقة الأقسام المتبع تصميمها في أي جريدة كلاسيكية، و”التحفة الخرسانية” كانت من ضمن قسم الفنون.
المثير للاهتمام ليس الفيلم، إنما جزئية ترجمة بعض الكلمات والجمل واختلاف سياقاتها، مثلا ترجمة كلمة “سم” من الإنجليزية poison إلى الألمانية بـ gift، الكلمة ذاتها المستخدمة بطبيعة الحال في اللغة الإنجليزية في سياق الهدية أو العطية، الموهبة في بعض الأحيان.
في الإنجليزية ثلاث مرادفات ساحرة الدقة لوصف السم، كل منها يحمل سياقا مختلفا كليا عن الآخر لكن جميعها يفضي إلى وصف الهلاك المؤكد أو انتشار السميّة في “جسد” أو هيكل الضحية وزعزعة نظامه.
مصطلح venom يشير إلى الإفرازات السامة الخارجة بشكل أساسي من نتاج أجساد الحيوانات، على سبيل المثال عضة الأفعى، لسعة العقرب، لدغة العناكب، وكل ما يتعلق بخاصية الدفاع/ الهجوم من قبل بعض الكائنات على طريق حقن ضحية ما لالتهامه أو عدو متحمل.
Toxic تشير إلى السموم المنبعثة من الكائنات بالغة الصغر، كالبكتيريا والفيروسات والفطريات. غير مؤكد ارتباط هذه الكلمة في سياقات وصف السمية الذهنية والتلاعب النفسي المتبع استخدامه في المجتمعات والعلاقات البشرية، لكن بتأمل بسيط فإنها تحمل الكثير من المنطقية، بالنظر إلى هذا النوع من السمية، يتسم بالـ خفي، ملتف، المحاط في بعض الأحيان بهالة من الاهتمام أو تزيفه. السيطرة على الآخر وشلّه معنويا، كما تفعل بعض البكتريا.
يميل استخدام Poison في السياقات المتعلقة بالسموم الكيميائية، سواء ذات التركيبات الموجودة لوحدها في الطبيعة أو الخاضعة للمعالجة والتركيب، منها السيانيد، الزرنيخ والزئبق.
تبعاً لفتكه السريع وجريانه السلس المميت في جسد شاربه، يقال بأن الزئبق كان يسمى بـ “ساعي الآلهة السريع” أو “رسول الآلهة” في الأسطورة الرومانية، كناية فكاهية حول قدرته في إرسال الجسد الحي من العالم الأرضي إلى العوالم العليا السماوية أو السفلى بزمن قصير.
Mercury المقابل الإنجليزي للزئبق، ولقب أقرب كواكب المجرة إلى الشمس “عطارد” في العربية. نسجت بعض الخيالات المثيرة للاهتمام حول هذا الكوكب، منها امتلاكه أجنحة بحجمه على مرتين تسبب حركته السريعة جدا حول الشمس بما يعادل 87 لكل دورة كاملة كـ تأثير مادة الزئبق السريع في الدم، مقارنة بحركة كوكب الأرض يعد خارق الحركة. في العربية يسمى الكوكب بـ “عطارد” بمعنى المطاردة والعَطرَدة، وجريانه المتتابع كـ ومضة.
يقال بأنه تم العثور على كميات من الزئبق في المعابد الفرعونية وفي هياكل قبور المومياءات، في معبد “الثعبان المجنح” في المكسيك وغيره من أثر الحضارات “السابقة”. ليس هناك سبب واحد يفسر انتشاره الواسع في الحضارات القديمة، وامتلاك كل حضارة أسطورتها الخاصة حوله، إن كان الأمر مرتبط بطبيعة تركيبته السائلة المشابهة للـ الحديد الذائب أو بسبب سميته أو لونه الفضي أو الاعتقاد بقدرته على إعطاء شاربه الخلود أو استخدامه كمادة استشفاء، او حتّى في حشوات الأسنان. الأسباب متعددة.
الأسطورة المفضلة لدي، متعلقة بـ سردية حول أول إمبراطور للصين “تشين شي هوانغ”. أصيب الإمبراطور بفترة معينة من حياته برهاب الموت أو بما يسمى حالياً ثاناتوسفوبيا، الكلمة المنحوتة أصلاً، استلهاماً من إله الموت المباغت “ثاناتوس” في الأسطورة الإغريقية، يقال بأن “ثاناتوس” أثناء مهمة القبض على روح أحدهم كان يحمل في يده ضمة من زهور الخشخاش، حيث كان شائع حينها بأن هذه الزهور تسبب النوم العميق وتخدر بعض الألام، حاليا تشكل تهديدا مبطنا لقدرتها على إنتاج الأفيون. أعني الهيروين. أكثر السموم هيمنة ذهنيا وجسديا والأكثر صعوبة في التخلص منها إن دمجت في الدم.
قضى “هوانغ” ما تبقى من حياته ممسوسا بإيجاد إكسير الخلود، مجربا العديد من المواد والأعشاب إلى أن قتل أخيرا بأحد التجارب بسبب كميات هائلة من مادة الزئبق، الشائع استخدامها حينها في الصين كوصفة لإطالة العمر وتقوية العظام.