ارتباك إيراني مع وصول التّسويات إلى عاصمة نفوذ طهران في البوكمال
النشرة الدولية –
النهار العربي –
يواكب قادة إيرانيون يعملون في منطقة شرق الفرات التسويات التي تقوم بها دمشق في دير الزور والمدن المحيطة بها، لا سيما مدينتي الميادين والبوكمال، بكثير من الترقب والحرص، لئلا يؤدي أي رد فعل يصدر عنهم إلى إعطاء مؤشرات غير دقيقة عن موقف إيران السياسي حيال هذه التسويات، ولكن مع سعيهم في الوقت نفسه إلى “احتواء” هذه الموجة من التسويات التي اقتحمت عقر دار نفوذهم في المدن القريبة من الحدود السورية – العراقية، ومن ثم محاولة الاستفادة منها قدر الإمكان، وخصوصاً لناحية تعزيز التموضع الإيراني في المنطقة وإطالة أمده.
وفي المبدأ، تمثل “التسويات” مشروعاً روسياً لإعادة ترتيب أوراق المشهد السوري، بما يضمن تعزيز سيطرة دمشق على كامل الجغرافيا السورية، وتعزيز مشروعية السلطة الحاكمة تمهيداً لإعادة تأهيلها. ويفترض ذلك أن تتعارض أهداف التسويات النهائية مع طموحات إيران التوسعية، لأنها ستؤدي بطبيعة الحال إلى فرض وجهة النظر الروسية التي تختلف من دون شك مع الاستراتيجية الإيرانية، بصرف النظر عن نقاط التقاطع القائمة بينهما في أمور معينة. وثمة من يصف العلاقة بين روسيا وإيران في سوريا بأنها “شراكة تنافسية” تقوم على التعاون والتنسيق في إطار من المنافسة، وربما “الصراع الهادئ” على تحقيق الأهداف المتباينة.
وعليه، فإن وصول قطار التسويات إلى مدينة البوكمال، لا يمكن قراءته إيرانياً إلا من خلال تعبيره عن توسع روسيا وزيادة هيمنتها على الملف السوري، وإن عبر استخدام أساليب القوة الناعمة المتمثلة في اتفاقات التسوية العابرة للمحافظات.
ولعلّ ما من شأنه أن يحوّل الترقب الإيراني إلى نوع من القلق المبدئي، هو أن الخطوات الروسية، في الجنوب السوري وحالياً في الشرق، تأتي بالتزامن مع تسريبات تتحدث عن إمكان وصول واشنطن وموسكو إلى تفاهمات معينة بشأن إدارة الملف السوري، أو على الأقل إحياء استراتيجية “خطوة مقابل خطوة” بموجب لقاءات جنيف بين مسؤولين روس وأميركيين، بالإضافة إلى الجهود التي تبذلها موسكو، بغضّ طرف أميركي أو ربما موافقة ضمنية من واشنطن لإحياء المفاوضات بين دمشق والإدارة الذاتية التي تحكم منطقة شرق الفرات، وتعتبر الذراع الإدارية لـ”قوات سوريا الديموقراطية” التي تهيمن عليها وحدات حماية الشعب الكردية.
وتزداد الريبة الإيرانية من دون شك مع ازدياد نسبة الغارات الإسرائيلية ضد أهداف مفترضة لإيران في سوريا، بعد لقاء رئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينيت مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أواخر شهر تشرين الأول (أكتوبر)، الأمر الذي اعتبرته تقارير إسرائيلية بمثابة اتفاق روسي إسرائيلي على طرد إيران من سوريا، برغم عدم وجود تأكيد روسي لذلك.
وبالقياس إلى تجربة التسويات في الجنوب السوري، لا تجد طهران نفسها معنية باتخاذ أي مواقف حادة أو رافضة علناً للتسويات التي تجري في المنطقة الشرقية، لا سيما أن تسويات الجنوب انتهت من دون أن يمس ذلك بالانتشار الإيراني في المنطقة، أو من دون حتى أن يغير من مستوى وجودها الميداني وقدرتها على التأثير في منطقة محاذية للحدود مع إسرائيل.
ولكن نظراً إلى الحساسية العالية التي توليها طهران لمدينة البوكمال، بسبب قربها من الحدود مع العراق الذي يعتبر بدوره ساحة صراع إيراني مع النفوذ الأميركي، فقد كان لا بدّ لمستويات قيادية إيرانية تعمل في سوريا من أن تتخذ بعض الإجراءات لضمان ألا تؤدي عملية التسويات إلى إعطاء صورة مخالفة للواقع، وكذلك للبحث عن طرق ووسائل من شأنها تحويل التسوية إلى غطاء لتحقيق مكاسب إيرانية في المنطقة.
ويبدو أن دمشق، من جهتها، حريصة على تفهّم الحساسية الإيرانية في المنطقة، لذلك عقدت أول اجتماع تمهيدي للجنة المصالحة الوطنية مع وجهاء العشائر في مقر الحاج عسكر، قائد الحرس الثوري الإيراني في البوكمال. عقد الاجتماع يوم الجمعة الماضي بهدف تأمين الأرضية المناسبة قبل انتقال عملية التسوية من مدينة الميادين إلى مدينة البوكمال أواخر الأسبوع الجاري، وفق ما نقلت مصادر إعلامية سورية معارضة. وأوعزت “لجنة المصالحة الوطنية” خلال الاجتماع إلى وجهاء المنطقة بضرورة التواصل مع أهالي البوكمال وريفها، وإعلامهم بمراجعة مراكز المصالحة لتسوية أوضاعهم القانونية مع النظام السوري، بحسب ما ذكر موقع “عين الفرات”.
في المقابل، تحدثت مصادر أخرى عن اجتماع سرّي ضم قادة الميليشيات الإيرانية في سوريا، إلى جانب قادة ميليشيات الحشد الشعبي في العراق، بهدف التباحث في تداعيات عملية التسوية التي وصلت إلى المناطق الحدودية بين سوريا والعراق. وذكرت المصادر أن “أربعة قادة من الحرس الثوري، وعلى رأسهم الحاج عسكر، المسؤول العام عن مدينة البوكمال ونواحيها، برفقة الحاج مهدي المسؤول عن الحرس في مدينة الميادين، التقوا قادة من الحشد الشعبي في قاعدة الإمام علي، لبحث تداعيات التسوية الروسية ومدى تأثيرها في الوجود الإيراني، وبخاصة بعد فتح مركزين للمصالحة في مدينة البوكمال ومثلهما في مدينة الميادين أيضاً”، بحسب ما ذكر موقع “الحل.نت” في تقرير منشور يوم الأحد.
وعن تفاصيل الاجتماع، ذكرت المصادر نفسها أنه “استمر قرابة الساعتين، ووُضعت مقترحات خلاله لوقف المد الروسي الجديد، بخاصة في مدينتي الميادين والبوكمال، حيث اقترحت ميليشيا الحرس زيادة رواتب العناصر المحليين، وعدم إرسالهم إلى منطقة البادية في الوقت الحالي، وأن تقتصر خدمتهم على داخل المدينة ونواحيها فقط”، وكذلك “أن يُمنح العناصر إجازتين خلال الشهر الواحد، خلاف ما سبق من عدم إعطاء إجازة لأي عنصر، حتى وإن كانت الحالة مرضية”.
واقترح قادة ميليشيا الحشد أن يتم “فتح مكاتب انتساب جديدة، وتقديم ميزات للمتقدمين، كمساعدات غذائية لعوائلهم ولوازم مدرسية لأطفالهم إذا كان للمتقدم تلاميذ في المدرسة، إضافة إلى السماح لهم بالعلاج داخل المشافي الإيرانية في المدينة”.
ورأى مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان المعارض رامي عبد الرحمن أن “إيران باقية في سوريا”، مستشهداً بعملية نقل الأسلحة من مدينة الميادين إلى بادية الرقة التي تزامنت مع إجراء التسوية في المنطقة. وقال في مقابلة تلفزيونية: “انتقلت شاحنات من أجل تثبيت نقاط للإيرانيين الذين بنوا تحصينات كبيرة في البادية السورية، هذا يدل الى أنهم يريدون البقاء والاستمرار داخل الأراضي السورية، ولكن لماذا يقومون بتخزين الصواريخ في بادية الرقة؟ لمواجهة “داعش”؟ هذا غير صحيح، أم لمحاربة قسد؟ أعتقد أنه إذا بقي التحالف الدولي فلن ينجحوا”. وأضاف: “تخزين الصواريخ في بادية الرقة يدل الى أن إيران باقية باقية حتى المستقبل القريب داخل الأراضي السورية، وعلى ما يبدو، فالتحصينات التي بناها الإيرانيون في بادية معدان في الرقة أقل عرضة للاستهداف الجوي من مواقعها التي تقصف في البوكمال والميادين”.
قد يكون ما أشار إليه عبد الرحمن، أحد وجوه الاستفادة التي تسعى إيران الى تحقيقها من وراء السماح لقطار التسويات بأن يقتحم معاقل نفوذها في الشرق السوري، بالإضافة إلى مقترحات التجنيد والانتساب، وهو ما تُرجم أخيراً من خلال مساعي الميليشيات الإيرانية لتجنيد نساء ضمن صفوفها.