قصة قصيرة عيسى

النشرة الدولية –

لوريس الراعي

لا أدري ما الذي جعلني أتذكر ، وأنا أراقب الصف الخامس إبتدائي في أحد أيام ألإمتحانات الفصلية ،  حادثة جرت لي لخمس أو ست سنوات خلت ، يوم دخلت بيتنا فوجدت والدي وأحد الرجال وقد جلسا إلى الغداء ، بينما إنزوى بقربهما طفل مطأطئ الرأس ، محمرّ الوجه ، مرتبك الحركات ، يجيب بصوت يكاد لا يسسمع : ” مش جوعان  “، كلما دعاه والدي إلى ألطعام ؛ وحينما أخذ الرجل يكرّر قوله : ” قلت لك إتركه ، عمرو ما ياكل ! “، أشار إليّ والدي وقال للطفل : ” فوت لجوّه “.

لم يدخل الطفل بل إزداد إرتباكا وخجلا وبدا كأنه يريد أن يبكي أو أن يهرب أو أن …فتقدمت منه وأمسكته بيده قائلة : “تعال يا شاطر “.

نظر إليّ بوجه حزين حزين ، وتطلّع إلى يدي تمسك يده ، فاحمرّ وجهه حتى بدا لي أنه يختنق . ثم مشيت معه إلى ألمطبخ حيث أجلسته إلى الطاولة ، و ألححت عليه أن يأكل وتركت المطبخ عمداٌ .

كان عيسى ، وهذا إسمه ، في حوالى العاشرة من عمره ، مليح الوجه والقد ، رثّ الثياب ، وقد بدت على وجهه ، في تلك اللحظات ، مسحة حزن غريبة هي بالحقيقة مزيج من شعور بالنقص ، ومن شعور بالخجل وبالقهر ، وشعور بالمكابرة والإنتقام وهو ، في هذه ألآونة يحظى بالاهتمام نفسه الذي يحظى به ” معلمه “.

بعد قليل ، دنوت منه ، وقد أكل كل ما في صحنه وارتاح بعض الشيئ ، وقلت له :

_ ” شو إسمك يا شاطر ؟ ”

_”عيسى ”

_” عم تروح عالمدرسة ؟ ”

_ ” هلّأ لأ ، بس بالأول كنت روح ووصلت عا صف الثالث “.

_” وليش بطلت ؟”.

_” بس مات أبي ، طلعت إشتغل ! “.

وهكذا رأيتني أستجوبه سؤالاٌ إثر آخر حتى عرفت مأساته ألتي تتلخص بأن والده توفي منذ سنتين تاركاٌ وراءه سبعة أطفال من غير معين أو معبل مادي .

وأخبرني أيضاٌ “، بأنه يعمل ويمنح أجره لأمه ، وأنه إشتغل عند المعلم الفلاني صاحب الفرن ، والمعلم العلاّني البقال ، وحاليا هو يعمل عند هذا المعلم الجالس إلى مائدة الطعام في الغرفة المجاورة . وأخبرني أيضاٌ بأن عمله ، عند هذا المعلم الذي يوزّع أحد أنواع المشروبات الغازية ، يقضي بإنزال الصناديق الملأى بالمشروبات وإعادة الفارغة من الشاحنة وإليها.

ولمّا سألته عما يتقاضاه يومياٌ ، أجاب بأنه يطلّع ” حسب الشغل ” ، وكنت أنوي أن أساله أكثر عن أخته التي تصغره وتعمل ، كما أخبرني ، خادمة في أحد البيوت ، لولا صوت المعلم الواصل إلينا : “يالله يا صبي بدنا نمشي ! ”

فقلت له :

_ “بتحب المعلم ؟ ”

_ “لاء ”

ولم يجبني عندما قلت : “لماذا ؟ “، ولما سالته : ” بيضربك ؟ ” ، بكى عيسى وانسالت دموعه على خدّه بسكون بالغ فأحسست ، أنا بدوري ، وكأن يداٌ جبارة تضغط على عنقي ، فبكيت .

لما سمعنا وقع أقدام أبي و”المعلم ” نهض عيسى ، بينما ظلّت الدموع تنسكب من عينيّ .

سألني والدي عن سبب بكائي فأخبرته بحال عيسى وكيف أن هذا الطفل يعمل ويقاسي …فإذا بالبائع ” المعلم ” يقول لي :

_ ” وحياتك ما بقا راح تبكي على شانه أبداٌ ”

بعد مدة إلتقيت “بالمعلم ” وسألته عن عيسى ، فأجابني فرحاٌ :

_ ” أنا عند كلمتي ، ” يا مدموزيل ” ، طردته ، وحياتك ، لأنو ما فيني شوف عيونك عم يبكوا !!! “

زر الذهاب إلى الأعلى