خيارات العرب تواجه صراع “الخلافة والإمامة”
بقلم: رفيق خوري

الأصوليات التي تريد العودة بنا إلى أيديولوجيا من عصور قديمة تستخدم أحدث وسائل التكنولوجيا وأسلحة العصر

النشرة الدولية –

العالم العربي ليس في مسار ضيق كما يراد له أن يكون. وخياراته ليست محصورة في دائرة مغلقة على أفكار من قرون مضت وتبدلت ظروفها التاريخية، تعاد الدعوات إليها في القرن الحادي والعشرين مصحوبة بالإرهاب وقوة السلاح. ومصيره ليس معلقاً بالسباق والصراع على خريطة المنطقة بين “الخلافة والإمامة”، حيث التركيز على خطين، خط أعاد رسمه الشيخ حسن البنا الذي أسس جماعة “الإخوان المسلمين” في مصر وانتشرت في المنطقة. وخط أعاد رسمه الإمام الخميني في كتاب “الحكومة الإسلامية”، وأقام باسمه جمهورية الملالي في إيران بعدما انفرد بالثورة التي أسقطت حكم الشاه. خط لاستعادة “الخلافة” بعد سقوط السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى. وخط لإقامة “الولاية” في المنطقة والعالم، وعملياً إعادة الامبراطورية الفارسية بثياب مذهبية.

وليس قليلاً تعدد الخيارات وتنوعها أمام العالم العربي، سواء على مراحل أو بالتزامن. كان الخيار الأول في السنوات الأخيرة للسلطنة العثمانية، بين انفصال العرب عن السلطنة وبين البقاء في إطارها عبر الحكم الذاتي. ولم يكن الخيار سهلاً، إذ بقي من يدافع عن البقاء في السلطنة التي لم تكن الخلافة سوى عنوان في حياة سلاطين آل عثمان، لكن موجة العروبة والانفصال انتصرت. ولا نزال في مواجهة مع تنظيمات خرجت من عباءة الإخوان المسلمين، وتعمل بالعنف على تجاوز العروبة إلى “الإسلاموية”، كما مع تخطيط إيراني للسيطرة وادعاء الخروج من القومية إلى نسخة أخرى من “الإسلاموية”. فلا دعاة الخلافة يتوقفون أمام قول ابن خلدون، إن “الخلافة ليست من عقائد الإيمان، بل من شؤون التنظيم الاجتماعي” أو أمام قول جمال البنا شقيق حسن البنا، “الإسلام دين وأمة، لا دين ودولة”، أو أمام علي عبد الرازق الذي لم ير مبرراً للخلافة في كتابه “الإسلام وأصول الحكم”، أو أمام فظائع “الخلافة الداعشية”. ولا أتباع الخميني في “ولاية الفقيه” يعبأون بدعوة الميرزا محمد حسين النائيني في كتاب “تنبيه الأمة وتنزيه الملة” إلى “ولاية الأمة على نفسها، ورفض الاستبداد القائم على العبودية للسلطان بالقوة والغلبة والعبودية لرؤساء الطوائف بالخدعة والتدليس”. ولا يتوقفون طبعاً أمام فرض الإقامة الجبرية على مير حسين موسوي الذي فاز في الانتخابات الرئاسية وجرى إسقاطه، والقائل “الديكتاتورية باسم الدين هي أسوأ أنواع القمع”.

أما الخيارات الأخرى التي دفعنا ثمنها قبل أن نصطدم بالجدران، فإنها تبدو في وقت واحد كأنها صارت وراءنا ولا تزال معنا. خيار الوحدة العربية أو الكيانات والدول الوطنية. خيار الأمة أو الأممية التي انتقلت من الشيوعية الى الأحزاب الدينية. خيار “وحدة الصف” أو “وحدة الهدف” عبر ما سمي الصراع بين التقدمية والرجعية. خيار الحرب أو التسوية لحل القضية الفلسطينية في المواجهة مع إسرائيل. خيار السلطوية أو الديمقراطية. والأفظع في هذه الأيام هو خيار الحفاظ على الدولة الوطنية ضمن حدودها أو انفصال الطوائف والإثنيات، وأقله التغيير ضمن حدود الدولة الوطنية لجهة الفيدرالية وسواها من أنواع الحكم.

وليس من المعقول أن يصبح الخيار أمامنا هو إما السلطوية الاستبدادية تحت عنوان الاستقرار، وإما الشمولية الأصولية التي تمارس الإرهاب باسم الدين. ولا من المقبول أن نبقى عالقين في معضلة اسمها الصراع بين “الأصالة والحداثة” أو بين التراث والقطع معه. فنحن في حاجة إلى الثابت والمهم في التراث والأصالة، كما إلى الضروري في الحداثة. ونحن في عالم مفتوح على التجارب وتلاقح الثقافات والحضارات، ولا مكان فيه لشيء اسمه “الغزو الثقافي”. أليست الأنظمة الثيوقراطية في هذا العصر هي تمارين على السير إلى الوراء؟ ألسنا في نهاية الأيديولوجيا؟ ألم يحذرنا محمد أركون من أن “الأصوليات تحوّل الدين أيديولوجيا سياسية”؟

المفارقة أن الأصوليات التي تريد العودة بنا إلى أيديولوجيا من عصور قديمة، تستخدم أحدث وسائل التكنولوجيا وأسلحة العصر في ممارسة “ثقافة القتل” وتنفيذ مشروعها. وأقل ما تقدمه للشعوب هو ما فصله أبو بكر ناجي في كتاب “إدارة التوحش”، حيث الانتقال “من النكاية إلى التمكين”. ولا أحد ولا شيء يقف في وجه الجيل العربي الجديد الذي يريد الخروج من الخيارات المرفوضة بين الثنائيات المتناقضة إلى الخيار الثالث الطبيعي وهو الدولة الوطنية الاجتماعية.

 

زر الذهاب إلى الأعلى