“طلعت بصحتي” نجاح نسبي في زمن السقوط
بقلم: حياة الحريري
النشرة الدولية –
قدّم الإعلامي زاڤين قيومجيان أمس الأوّل الحلقة الثانية من برنامج “لبنان Townhall” على عدد من الشاشات اللبنانية ضمن سلسلة “مناظرة”. يقوم البرنامج على مواجهة إعلامية أو حوار مباشر بين مجموعة من الشباب وبين سياسيين ومسؤولين حول قضية معيّنة يتمّ طرحها في كلّ حلقة.
“#طلعت ـ بصحتي” عنوان الحلقة التي ناقش فيها الشباب مسؤولين في قطاع الصحة في ٣ محاور مقسمّة على الشكل التالي: “السياسة الصحية الخاطئة” وتتناول الفساد في المستشفيات وفي السياسات الاستشفائية، “حبة الصبح قبل الأكل” وتتناول أزمة الدواء والمستشفيات احتكار الدواء والحق في الحصول عليه، و”غرفة الإنعاش” وهي مخصصة للاقتراحات والحلول التي يطرحها الشباب لمعالجة مواضيع القطاع الصحي التي طرحت.
منذ بداية الحلقة، كان من السهل ملاحظة قدرة قيومجيان على إدارة الحوار بعيدا عن الاستعراض والصخب والصراخ وهو ما تقع به معظم البرامج الحوارية بما فيها تلك التي بدأت بإدخال فكرة المناظرة في حلقاتها. بعد اندلاع انتفاضة ١٧ تشرين، نشطت فكرة تدريب عدد من منظمات المجتمع المدني بالاشتراك مع عدد من الوسائل الإعلامية ومع عدد من الإعلاميين على إعادة إحياء فكرة المناظرة التلفزيونية في البرامج الحوارية.
المرة الأولى التي شهد فيها لبنان ما عرف بالمناظرة الإعلامية كان في العام ١٩٧٤ بين الموالاة والمعارضة في السياسة في لبنان، وهي كانت المرة الأولى التي يتمّ فيها اعتماد هذا النوع من الحوار (معارضة وموالاة) بحيث وصفت “بالمناظرة التاريخية” بإدارة الإعلامي عادل مالك. وقد مثّل الشيخ بهيج تقي الدين الموالاة (كان وزيرا للداخلية في حكومة الرئيس رشيد كرامي آنذاك) في حين مثّل المعارضة زعيم الكتلة الوطنية العميد ريمون إده[1].
بالعودة إلى “طلعت بصحتي”، انعكس نجاح قيومجيان بالحفاظ على “نبرة” أو رصانة الحلقة من الشكل إلى المحتوى. فمع بداية كلّ محور، يعرض تقرير بالأرقام والوقائع حول القضية التي يطرحها وهو أيضا ما نفتقده في معظم البرامج التلفزيونية الحوارية التي تنطلق في عرض ملفاتها وإن استخدمت الأرقام لتوظيفها في سياق سياسيّ تبعا لسياسة المحطة وتوجّه المحاور السياسيّ. لم يقدّم المسؤولون السياسيون أي جديد في أجوبتهم كالعادة، بحيث كانت إجاباتهم تؤكد ما يطرحه الشباب من وقائع حول الفساد في السياسات الاستشفائية وغياب الخطة الصحية السليمة وما نتج عنها من هجرة للأطباء وللممرضين، واحتكار الدواء وغيرها. تماهى المسؤولون في التأكيد عبر إجاباتهم على الفساد والفشل القائمين في القطاع الصحي وفي خطط الحكومات المتعاقبة لدرجة يكاد ينسى المشاهد أن هؤلاء ينتمون لأحزاب تشارك بالسلطة منذ ١٩٩٢، وأنهم من صلب هذا النظام إن عبر وزارة الصحة أو اللجان النيابية. وكما في كلّ مرة لتبرير الفشل، يحضر العامل السياسيّ، العنوان المفضّل للسياسيين في البرامج الحوارية، والذين يبرعون فيه للاستطراد وأحيانا الخروج عن عنوان الحلقة كما كاد أن يحصل مع وزير الصحة السابق محمد جواد خليفة في حين يسجّل لزافين مقاطعته المهنية والصحيحة لتذكير الضيف بضرورة الالتزام بعنوان الحلقة. بدوره، يناقض النائب عاصم عراجي نفسه باعترافه بتأثر القطاع الصحي بالمحاصصة وبالزبائنية الصحية وسرعته لاحقا في عدم قبوله الاعتراف بتقصير المسؤولين وفي دعوته ولو خجلا بعدم التعميم في تحميل المسؤولية عن هذا الواقع. بصرف النظر عمّا إذا كان عراجي مقتنعا بما يقوله لتبرير فشل السياسات الصحية على مدى سنين ولتبرئة جهات سياسية تخصّه بتورّطها في كارتيل الدواء وفي فشل السياسات الصحية، ينجح قيومجيان مرة جديدة في حفاظه على مهنيّته الصحافية عبر عدم الانزلاق إلى ما يتقنه الإعلاميون في لبنان، وهو أن يكونوا طرفا في الحوار من خلال تحديد ومحاكمة من هو متهم ومن لا من الطبقة السياسية حسب قناعاتهم الشخصية. لم ينزلق قيومجيان إلى هذه السقطة الإعلامية مكتفيا بإعطاء توصيف عام حول كلام الضيفين حول الأخطاء بقوله “في أخطاء بس ما في مخطئين، متل ما في فساد في لبنان بس ما في مفسدين”.
أين المساءلة؟ سؤال يطرحه قيومجيان على النائب السابق إسماعيل سكرية الذي تحدّث عن سيطرة الفساد السياسي والنظام التجاري الاستهلاكي في القطاع الطبي في معرض رده على أسئلة الشباب خلال المناظرة. وللمفارقة، يتدخّل خليفة للردّ على سكرية الذي تحدث عن القوانين التي تمّ إسقاطها في المجالس النيابية المتعاقبة. ربما اعتبر خليفة أنه معنيّ بحديث زميله فحاول استعراض إنجازاته في وزارة الصحة ليعود قيومجيان من جديد إلى تصويب النقاش على الرغم من بعض الضجيج الذي نتج عن تبادل الهمز السياسيّ الاتهامي بين الضيوف المسؤولين لبعضهم البعض ومحاولات التبرير التي كانت طاغية طيلة الحلقة في أجوبة الضيوف.
أما بالنسبة للشباب، فهؤلاء تمّ اختيارهم بحسب قيومجيان للمشاركة في المناظرة بعد خضوعهم لتدريب من قبل مبادرة “مناظرة”. بداية، ابتعد الشباب عن الدخول في الاتهامات السياسية المباشرة خلال الحلقة والاكتفاء بصيغة “أنتم” أو “الطبقة السياسية”. غير أن هذه المهنية في إدارة الحلقة وفي مضمون أسئلة ومداخلة الشباب، سقطت نسبيا في المحور الأخير عندما وجّه أحد الشباب انتقادا مباشرا إلى التيار الوطني الحرّ باستخدامه مصطلح “ورثة الحكم” وبانتقاد كلمة “ما خلونا” الشهيرة. وفي حين استطاع قيومجيان ضبط إيقاع أجوبة المسؤولين في تصويبها حول الهدف من الحلقة، فهو لم يتدخّل لمنع استغلال الحلقة للتصويب السياسيّ المباشر على فريق ضد آخر.
وعلى الرغم من صوابية القضايا التي طرحها هؤلاء الشباب، إلا أن الانفعال والأسلوب الخطابي كان الغالب في مداخلاتهم الأمر الذي يضعف جوهر البرنامج المفترض، وهو المساءلة والنقاش.
“مناظرة” ليست المبادرة الأولى لتدريب الشباب حول المناظرة والديموقراطية، وحتى الآن ليس واضحا ما هو الهدف الأساسي من انتشار هذه الظاهرة الصحية إذا ما كانت مهنية بحت وتخلو من الأجندات السياسية.
طرح الشباب عددا من الاقتراحات والحلول لمعالجة مشاكل القطاع الصحي في لبنان مثل توحيد لوائح الأدوية وإنشاء مكتب الدواء لمحاربة الكارتيلات، ولا مركزية الاستشفاء في لبنان وغيرها من القضايا. فهل يملك المسؤولون الذين شاركوا في الحلقة وشجّعوا الشباب جرأة طرحها ومتابعتها مع أحزابهم؟
تعرّف “مناظرة” عن نفسها “كمنظمة غير ربحية تأسست في العام ٢٠١٢”. بحسب موقع المنظمة المسجّلة في العاصمة الأميركية واشنطن في تونس العاصمة، “تهدف المبادرة إلى إرساء منصة مستقلة وشاملة للنقاش والمناظرات في المنطقة العربية وإلى تمكين الأفراد في العالم العربيّ لإيصال صوتهم ولإيجاد فضاء عام يتميّز بالتطور والتسامح تجاه المواقف المتباينة”. وبحسب موقع الوكالة الوطنية للإعلام، تشترك عدد من محطات التلفزة اللبنانية في هذه المبادرة كأعضاء مؤسسين لمبادرة “جديدة ملتزمة مبادئ الصحافة في خدمة الشأن العام”. المحطات هي: تلفزيون لبنان”، “تلفزيون الجديد”، “أو. تي. في”، “أن. بي. أن”، “إذاعة صوت لبنان”، و”صوت الشعب”.
محاضرة جامعية في الإعلام
باحثة دكتوراه في التاريخ والعلاقات الدولية
المؤسسة والمديرة التنفيذية ل “دياليكتيك”