وثائق إسرائيلية جديدة تبلور مقاربة مختلفة حول النكبة
بقلم: د. سنية الحسيني
النشرة الدولية –
كان التطهير العرقي الذي مارسته الحركة الصهيونية ومن بعدها حكومة الدولة الصهيونية حجر زاوية في مشروعها الاحتلالي الإحلالي، فما بين استقدام اللاجئين اليهود من أبعد أصقاع الأرض إلى فلسطين، والسيطرة على أرضها بالتضليل تارة وبالخداع تارة وبالقوة والعنف تارات، شكل تفريغ فلسطين من أهلها العنصر الثالث لاستكمال هذا المشروع. أقدمت الحركة الصهيونية وحكومتها من بعدها على تفريغ فلسطين من أهلها من خلال احتلالها واقتراف مجازر وحشية بحقهم، استشهد خلالها آلاف الفلسطينيين، وهجر منها معظم سكانها، والذين بلغ عددهم مليون لاجئ، حسب بعض المصادر، منهم من رحل الى أجزاء أخرى من فلسطين، وآخرون رحلوا خارجها. ولا تعتبر الحركة الصهيونية وحدها المسؤولة عن هذا الجرم، بل يمتد إلى الحكومات الإسرائيلية من بعدها، التي استكملت عمليات تفريغ فلسطين من أهلها، وأخفت ملفات الجرائم والمجازر بحق أهل فلسطين، واختلقت رواية تدعي أنها تعرضت للعدوان من قبل سبع دول عربية، وإن ما فعلته إبان حرب عام ١٩٤٨ كان مجرد دفاع عن النفس، وأنها لم تهجر الفلسطينيين ولم تقترف مجازر إجرامية بحقهم، وإنما هم تركوا أرضهم بارادتهم وتلبية لأوامر قياداتهم الفلسطينيين والعرب، حتى أنها أنكرت حدوث مجزرة دير ياسين، وادعت بأنها من خيال الفلسطينيين.
وجاء الكشف عن عدد ضئيل من الوثائق السرية التي تحتجزها إسرائيل مؤخراً، بالإضافة إلى ما تم الكشف عنه منها في وقت سابق، ليفتح الباب باعادة النظر في ملف بناء دولة إسرائيل على أساس أنها بنيت على إبادة الفلسطينيين، والذي انعكس وترجم فعلياً بتدمير مئات القرى والمدن الفلسطينية، معظمها بشكل كامل، وقتل الاف الفلسطينيين وتهجير مئات الالاف منهم، من منظور لا يدعم الرواية الفلسطينية فقط، بل يقدم مقاربة أكثر تشدداً.
في تقرير نشر الشهر الماضي في صحيفة هآرتس الإسرائيلية، كشف الباحث آدم راز عن مجموعة جديدة من المجازر التي ارتكبت بحق الفلسطينيين خلال زمن النكبة، واستند في ذلك إلى وثيقة سرية، تم الافراج عنها مؤخراً من بين مجموعة وثائق أخرى من قبل إسرائيل. ولا تشكل دموية وهمجية تلك المجازر الجديد بالنسبة للفلسطينيين، وإنما يعد ظهورها كمجازر جديدة، لم تكن معروفة من قبل الفلسطينيين من قبل، في ظل تضارب الروايات حول عدد تلك المجازر وعدد ضحاياها، يعد قضية تحتاج إلى مراجعة. وكانت إسرائيل قد حجبت قبل سنوات عددا من الوثائق السرية، والتي أفرجت عنها خلال ثمانينيات القرن الماضي، بعد أن استخدمها عدد من المؤرخين اليهود، وباتوا بفعلها يتحدثون عن مقاربة جديدة حول نكبة فلسطين، غير تلك التي روجت لها حكومات دولتهم، كان من بينهم بيني موريس الذي وثق ٤٨ مجزرة جديدة.
وأثبتت تلك الوثيقة الصادرة عن جهاز المخابرات التابع لجيش الاحتلال، والتي استخدمها موريس، في دراسته التي نشرها عام ١٩٨٦، وأعادت الحكومة حجبها بعد ذلك، أن السبب الأكبر والأهم في هجرة الفلسطينيين خلال عهد النكبة كان الجرائم والعنف الشديد الذي اقترف ضدهم، والذي شكل أكثر من ٧٠ % من أسباب هجرة الفلسطينيين، في حين اعتبر التقرير أن وسائل التخويف والترهيب كالقاء القذائف ذات الأصوات المخيفة وغيرها، ترفع تلك النسبة إلى ٩٤%. كما أشار ذلك التقرير إلى أن خروج الفلسطينيين من قرى فلسطينية عديدة، قبل وصول التنظيمات الإرهابية اليهودية اليها والممثلة بالهجاناه ومنظمتي ليحي وايتسل، وكان بأوامر من قيادات فلسطينية أو عربية، وجاء لأسباب تكتيكية تتعلق بمواجهة المسلحين الفلسطينيين لتلك التنظيمات اليهودية المعتدية.
عملت إسرائيل منذ نشأتها على إخفاء الوثائق التي تؤكد تورط المنظمات الصهيونية والجيش الإسرائيلي من بعدها بجرائم ضد الفلسطينيين، والتي لم يكن من الممكن بناء إسرائيل بدونها، كما أنها أصدرت عام ١٩٤٩ عفواً بأثر رجعي عن جميع الجرائم التي اقترفت قبل ذلك، لاغلاق ملف تلك الجرائم في إسرائيل. وأكد تقرير صادر عن معهد بحث الصراع الإسرائيلي الفلسطيني «عكيفوت» عام ٢٠١٧ أن إسرائيل تمنع الجمهور من الوصول إلى معظم الوثائق السرية، التي يسمح قانون الارشيف لعام ١٩٥٥ بكشفها بعد سنوات محددة، وانتهت فترة سريتها، خصوصاً تلك التي تتعلق بحرب عام ١٩٤٨. كما اعتبر تصرف الحكومة بإعادة حجب وثائق تم الافراج عنها، بعد أن أمضت الفترة القانونية المقررة لها أمرا غير قانوني. ويؤكد مسؤول أمني إسرائيلي رفيع أنه لم يتم نشر جميع الحقائق حول النكبة وقضية اللاجئين الفلسطينيين. ويفسر ذلك ما تم الإفصاح عنه من هذا النوع من الوثائق بأنه لا يتجاوز فعلياً الـ ١% منها.
ويحظر قانون الارشيف في إسرائيل نشر وثائق سرية لسنوات تتراوح ما بين ١٥ و٩٠ عاما او حتى لزمن غير محدد، حسب درجة خطورتها، وتتعلق بأحداث حرب ١٩٤٨ وملف أسلحة الدمار الشامل بما فيها سلاحها النووي وعلاقات إسرائيل الخارجية. ويعد سن هذا القانون أحد الوسائل التي لجأت اليها حكومات إسرائيل لحجب الوثائق التي تفضح دموية وهمجية دولة الاحتلال، حيث منح القانون رئيس حكومة دولة الاحتلال صلاحيات واسعة لتمديد اغلاق ملفات ووثائق سرية، رغم انتهاء مدة سريتها. ومدد رئيس الوزراء الإسرائيلي عام ٢٠١٠ حجز الاف الوثائق التي انتهت فترة حجبها بعد خمسين عاماً. وتشارك لجنة وزارية أيضاً بمهمة تأجيل الافراج عن وثائق سرية من أرشيف الدولة، وهي مكونة من ممثلي عدد من الارشيفات المختلفة في إسرائيل، وعدد من ممثلي وزارات مختصة. كما يمتلك مسؤول الأرشيف إمكانية تصنيف وثيقة واعتبارها «وثيقة خطيرة» وحجب تداولها بتنسيق ذلك مع مسؤوله الأعلى. وبدأ الجهاز المسؤول عن الأمن في وزارة الدفاع الإسرائيلية عام ٢٠٠٢ بعمل مسح شامل لتلك الوثائق السرية المتواجدة في أرشيف الدولة، للبحث عن جميع الوثائق التي تدين إسرائيل وتنقض روايتها حول النكبة، وشرعت باغلاقها.
يأتي الاخفاء المنهجي للحقائق من قبل حكومات الاحتلال المختلفة، ليخفي أحداثا مرعبة حول تهجير الفلسطينيين، ويغطي على تورط زعماء سياسيين كبار في إسرائيل. وتكمن أهمية كشف تلك الوثائق المفرج عنها حتى الآن في أنها وضحت جوانب عديدة خفية لم تستطع الرواية الفلسطينية تغطيتها تماماً والالمام بجميع جوانبها في ظل الظروف التي تعرض اليها الفلسطينيون خلال عهد النكبة، والتي حالت دون تمكنهم من رصد مآسيهم بالكامل في ظل استشهاد عائلات بأكملها أو تدمير قرى بأكملها، واعدام جميع قاطنيها، وهو الامر الذي يفسر أحياناً أعداد ضحايا تلك المجاز التي كانت تتراوح ما بين بضع عشرات إلى بضع مئات، وهي التي قد تمثل عدد سكان القرية بأكملها. كما أن حالة الهلع وفوضى الهروب من الموت قد يفسر أيضاً مزيدا من الغموض حول مصير هؤلاء الضحايا، والذي تسعى إسرائيل لاخفائه بكل ما أوتيت من قوة.
جاءت جرائم التنظيمات اليهودية قبل حرب عام ١٩٤٨ وجرائم جيش الاحتلال الإسرائيلي بعد عام ١٩٤٨ بهدف تهجير الفلسطينيين واخلاء فلسطين من أهلها، ويعتبر بقاء أربعة الاف فلسطيني في حيفا وضواحيها من ٩٠ الف فلسطيني وثلاثة آلاف فلسطيني في يافا وضواحيها من بين ١٢٠ الف فلسطيني أكبر دليل على ذلك. ويبدو أن الدور الفلسطيني في البحث عن المزيد من الحقائق للعالم ليصبح أكثر الحاحاً الآن، مع تكشف المزيد من الحقائق عن بشاعة ما حدث لاجدادنا، والتي يبدو أننا لا نعرف عنها الكثير. ويبدو الأمر أكثر الحاحاً مع استمرار ممارسات الاحتلال بتنفيذ مخططاته أيضاً في اطار الأراضي التي احتلها بعد ذلك في عام ١٩٦٧، وانكاره للحق الفلسطيني فيها، وحشر الفلسطينيين في أقل من ١٠٪ من مجمل أراضيهم، وحرمانهم من ممارسة سيادة حقيقة عليها، وابقاء قضيتنا عالقة دون حل رغم مرور قرن من الزمان. كما انه يجب الاخذ بعين الاعتبار بأن صدور قرار التقسيم من قبل الجمعية العامة عام ١٩٤٧وانسحاب بريطانيا من فلسطين بعد ذلك، أطلق يد العصابات الصهاينة لسرقة أرض فلسطين وتشريد أهلها، وبناء إسرائيل، والذي اتبع بإقرار العالم الغربي بشرعية هذا الكيان بعد ذلك، الامر الذي رسخ دعائمه وثبت أقدامه على حساب الفلسطينيين، الامر الذي يجعلنا نعيد التفكير بالاكتفاء بفكرة محاسبة إسرائيل على جرائمها، على الرغم من أنها جرائم لا تسقط بالتقادم، خصوصاً وأن جميع مقترفي تلك الجرائم قبل عام ١٩٤٨ وبعدها قد غيب الموت معظمهم، ومن هنا يجب التأكيد على ضرورة العمل والبحث عن بدائل اكثر فاعلية.