الحب المُسْتَبِدُّ ( تتمة النص السابق – حصار النق )

الدكتور سمير محمد ايوب

النشرة الدولية –

ثرثرة في الحب

أمضّينا صديقي وأنا، أكثر منْ نصف ساعة، نُناوِرُ بحثاً عن مكانٍ نَصطفُّ فيه، قريبا من مطعم هاشم في قعرِ عمان. عجِزنا بامتياز. اضطررنا لإيقاف سيارتنا بعيدا عن مقصدنا. سيرا على الأقدام مضينا إلى هناك. إقترح صديقيَ دعوة زوجته لمشاركتنا العشاء، واستكمال الحوار سوية معها. هاتَفْتُها، فأقْبَلتْ علينا على عجل بأقدامٍ ثابتة، مكتظة بنظراتٍ حائرة. إنتصبنا واقفين مرحبين بها. تضاحَكْنا بعد أن احتضَنَت زوجها، وتباسَطنا بمرحٍ مُتَتال، حتى أفاض الله عليها بسكينةٍ بانَت في عينيها وميضاً جميلا.

ما أن أبلَغْنا النادل بما انتقينا من طعام، نقَّلتُ بصريَ مليّا بين ضيفَيَّ ، بين القلقِ البادي في عَينيها، والشرودِ العشوائي في عَينيه، أمسكتُ خَيطَ دخانٍ، يُبْقيهما عالقين بأوردة بعض. عاجَلتُها بسؤالٍ مُشفقٍ، أظنها كانت تتوقعه. ما بالُكِ يا سيدتي سريعةَ الاشتعالِ والعطَبِ؟!  من رَضيتِ به شريكا، بِأمَسِّ الحاجة للتَّفَهم، لا لفيوضِ نَقٍّ مُتذمر، لنْ  يُوَلَّدَ في المحصِّلة إلا نقّاً مُقابلا. حتى وإن كنتِ تظنين أنَّ خَلْفَ النَّقِّ غيرَةً جميلة تُخفينها في عباءاته، فهناك روحٌ أشبَعها النقُّ ضجَراً وملأها حَزَناً.

وأضفتُ مُعاتبا: الحب يا سيدتي وأنْ كان نعمةً كبيرةً، فالنقُّ يحوِّله نقمةً أكبر. ألا تَدرين أنَّ حبَّا ليس فيه من الدسم غيرَ الشك والظن والقلق، هو سَديمٌ مُثقلٌ بالتَّغاضُبِ والنق، لا يحتفي بإطمئنانِّ الرضا. وهو حبٌّ خائبٌ على الأغلب، تتقاطع فيه الأزمات، وترتطم في دهاليزه المِحن والهزائم والعجز، المُسْتَنزِفَةِ للطاقة، الهازمة للصبر وحسن الظن.

أشْعلَتْ  لزوجها سيجارة كانت حيرى بين أصابع يده اليسرى.  ثم أشْعلَتْ لنفسها واحدة. نَفثتْ دخانا كثيفا. إلتمَعت عيناها وهي تقول: ليتك تعلم يا شيخنا، أنَّك الاستثناء الذي أُكلِّمُة بقلبٍ مفتوح، وأسألُه النُّصحَ وأنا مُطمئنَّةٌ أنك القوي الأمين. أعلمُ يا سيدي أنَّ استمرار العتب تعبٌ، وأنَّ أكثر النَّقَّ مُغلِقٌ لمساماتِ التّفهم والتّفاهم المُحتمل. وأزيدك من الشعر بيتا كما تقولون، أنني أعلمُ فيما أعلم، أنَّ الحِوارَ الناضج هو بوابةُ التجدد السويِّ للمشاعر.

ولكنني يا شيخنا امرأةً غيورةً مُستبدة. وهذا فيما أظنُّ طبعٌ لا أملكُ حيالَ قضبانِ سِجنه الكثيرَ منَ الحيَل، والعسكريتاريا التي إحتضنَتني سنيناً طوالا زادتني بالتطبيع حدَّةً وصرامة. ماذا أفعلُ وقد وافق شنُّ الطَّبعِ مُقتضيات التطبيع؟!

 

لو وَقفتَ يا شيخنا على عتباتِ قلبه وقلبي، ستُدرك على الفور، أننا نمتلك حبَّا نستحقه. طالما أنَّ الأوان لم يَفُت بعد، دُلَّنا من فضلك كيف نمارس عظَمَته. عَلِّمنا كيف نَكبُرُ ونَصغُرُ مع نظراتنا وإن صمتَتْ. عَلِّمْني كيف لا أتَدثَّر أنا بفطرتي، كيف أقلّمَها لترشيقٍ يُؤهِّلُني لشراكة راشدة، تُمسكُ بالمشتركٍ وتبتعدُ عن أعشاشِ الدبابير.

قلتُ مقاطعا: الحب كالإيمان يا سيدتي، صِدْقٌ لا إكراه فيه. وأنَّ الاستبداد فيه حاذِفٌ مُتعسفٌ للمشاعر. وأظنك تعلمين أنَّ مشاعرا بلا ديمقراطية، هي لغوٌ فارغ. وأنَّ النق عتابٌ غيرَ ديمقراطي. يستثمره بعض أدعياء الحب، لأغراضٍ مختلفة بعيدة عن عباءات الحب. لا تنتج تطاولاتها في نهاية الأمر إلا هزيمتها الكبرى.

قالت وهي تُناول زوجها المُتابع لحوارنا بصمت، رغيفا ساخنا من سلة الخبز، وتبتسم لي وهي تناولني رغيفا آخر: أنا في الحب يا شيخنا لستُ منتحلة صفة. أنا أصيلة فيه لا عابرةُ طريق. أعرف من هو زوجي، وأعرف أني أستحقه ومكتفية به، وإن ضَللتُ أحيانا في ضواحي الحب وحواريه. ما تُبتُ عن حبه ولا استغفرته، تميل روحي الى كل تفاصيله، أغار عليه من عبق الزهور وعشق الياسمين. غيرتي لا تعني قلة ثقة به، ولكنه أهم خطوطي الحُمْر، التي لا أطيق الزّحام من حولها، وتجاوزها ممنوع.

طوَّقَها زوجُها بيمينه. لم تستطع كبح جماح دمعها، نظرتْ إليه وأرْخَت كفَّها على فخده المجاور لها. توهَّجَت وجنتاها. وشعَّ في عينيها بريقٌ وهي تقول بصوت مُرتجف موجَّهٍ لي: إنه كلُّ شيء حولي، هو وأنا ، نبحث عن هُدىً يا شيخنا. نتمنى عليك أن تُسديَ لنا ما يُيَسِّرُ أمرَنا، ويُصلح لنا من أمرنا. ويبدِّل التباساتَ مخاوفنا بأملٍ قادم. ونَعِدك أن نبذلَ جُهدا لنُحَسِّنَ مِنْ أنفسنا.

ومَضتْ تقول بانفعالٍ وهي تحاول اعتقال تنهيدةٍ بدت مُتَململةً في صدرها: كلُّ مُدخلات الادراك لديَّ، تَشي بأنِّي من بعده لا سمح الله، سأبكي على نفسي كثيرا. لنْ أجدَ قلبا كقلبه، ولنْ أصلحَ للحب. سأتوه بينَ حُلُمٍ لَمْ يَكتمل وواقعٍ جديد غيرَ مُحتمل. تتشابه أيام نصفَ ربةُ بيت، وتختلط عندها الوجوه، وسيبدو كل شيء فيها فارغا كئيبا.

قلتُ وأنا أغض من بصري عن دمعها: في ملاعب الحب كُونا كلاعبي  كرة القدم، باحثين عن أهداف تُحققونها بالتعاون، لا كالحَكَمِ الباحثِ عن أخطاء يَحْتَسبها. كلَّما استنفذ الحب قِواه، استجمعوها بتجديد أسئلتها الباحثة عن نواقصكما المتقاطعة، تعرَّفا معا عليها لإعادة ترميم المشترك، ومعالجة آثار التفاوت من الرأس حتى القدم، بعيداً عن مكرِ الكرامة الفردية وضبابها المربك، وبعيدا عن مشجب الشك وهوان الإتهام، ولا يَستقويَنَّ أحدُكما على الآخر بمشجبِ  الكمال. اغتنموا حاضرَ الحب فلا وقت للغد فيه. وليس من طبع الليالي الأمان، على رأي العظيم عمر الخيام. لا تغيِّروا شراكتكم بل غيّروا طباعها وطرق ممارستها. شراكةٌ مع كبرياء عقيم ونق مقيم، وجع من نوع فاخر. ولكِ أقول يا سيدتي، أنَّ الرجلُ العاقلَ مِنَّا، مُستعد للتنازل عن كلِّ ما لديه، مُقابلَ امراة يساوِرُها القلق عليه، إذا ما تأخَّرَ عن موعدِ العشاء أوعن موعد الدواء.

بعد الكنافة عند حلويات حبيبة القريبة، رجوتهما أن يشربا قهوتهما وحيدين بدوني، في مقهى جفرا القريب. بخفة وأناقة مَضيا كراقصين، يحيطهما هالة من اللهفة الانيقة. ودَّعتهما، ومضيتُ سعيدا وحيدا، إلى سيارتي على قارعة الطريق هناك.

زر الذهاب إلى الأعلى