بين ثقل الجسد المتواصل والدعوة إلى تجاوز المفهوم. قراءة في محرابٌ في كفّي للأديبة وداد رضا الحبيب بقلم الشاعر والناقد التونسي محمد بن جماعة

النشرة الدولية –

قرأت هذا العمل الأدبي بشغف المستكشف الباحث عن بيان مختلف وكتابة فارقة وحاولت أن أنصت إلى كلّ ما قيل داخل الجمل بشروطها الصّوتية فاخترت أن أستمع إلى صوت السّارد حيث كان وأتى..

فكان العنوان أن لامس منطقة الخشوع والتسليم وهو “محراب” تتوسّل أمامه السّاردة بيد غائبة وكفّ حاضرة (محراب في كفّي) ونعلم أنّ امتلاك الشيء يكون باليد وقبضة الكّف معا.. لذلك أرى أن المحراب عابر وليس مقيما.. فالكفّ المبسوط في المقام لا يُثبّت ما حواه لعامل الرّيح أو الترنّح أو الحركة..  فإذا المكان خال ومفتوح غير معلوم إلا باسمه.. واستبق المعنى من هنا للإنباء عن حيرة معلنة وتردّد خفيّ.. قد نصطحبهما كامل الكتاب.. فكان الاشتغال على الجملة الكاملة والمحيطة بالأسماء والأفعال طوال سبع والمائة صفحة لم يهدأ فيها هذا الحرف من عشق وحركة ووصل.

تتوالى الأصوات الصّاخبة منذ التصدير لتتواصل عبر خمسة عشر فصلا رسمت زبدة تأملات فلسفية وذاتيّة مشبعة باختيارات قد لا تغادر معانيها القارئ المتلقي.. وعالجها أكبر أدباء العالم عبر التّاريخ.. وهنا تصنع أديبتنا أ. وداد الحبيب تجربتها وتعالج ما طاب لها من تفكير لا ينقطع.. فتأسس له خواطر محدثة وتساؤلات جمّة في تفاعل مستمرّ إلى آخر ورقة من العمل السّردي.. فكأنّنا أمام هائم بالمعرفة، مختلّ غير ماسك بالحيرة وتفاصيلها التي سكنته حدّ التّماهي.. فكانت الطبيعة التي لا تحتمل هذا الضّيق مع امتداد الاتساع في هذا الكون والوجود:” أسرع إليك، أنا منك… فأعدني إليك” ج. الرومي.. وغمر الزّمان والمكان عشق وحبّ فَعَلاَ ما لا يطيقه هذا البطل المتعدد في صورة سارد تارة وفي شكل إله تارة أخرى وفي وعاء اسمه البحر وفي امرأة اسمها الجارة وفي مسلك اسمه اللّغة وفي مدار اسمه القصيد وفي محراب اسمه الموت.. فلا يعزو القول قلّة حيلة وإنّما أشاحت الساردة عن بعض من وجه الحقيقة التي فرضت علينا أن نكمل الباقي في مواجهة القدر والحزن والألم.. فالموت والحياة هنا وجهان بملامح واحدة والألم مقدّس والعشق ضحك وبكاء.. فإذا التصريح يعجّل بالدعوة إلى تجاوز المفهوم السّائد والتّمرّد عليه وعدم الافتتان به ذلك هو ” ترياق الفلسفة ” تيودور أدورنو ص  7 ..

ولا يهدأ هذا الحرف من عشق مقيم.. لا يخلو من الإبهام الأجناسي في حضرة الفصول كاملة.. لنضبط خيالا وتخييلا مناسبين لمنهج سرديّ قد سبق فيه الشعراء المحدثون ( الحداثيون ) زمانهم باستعمالاتهم الشعرية والنثرية الخاصّة رغم إبهامها المزمن.. لتتجلّى عندهم طريقة الإخفاء والتورية للإظهار حتّى في أقصى درجات الوضوح: “لا شيء يعجبني..” محمود درويش.. ماهو الشيء الذي لا يعجبه؟.. هنا أطلق الحكم على كلّ شيء.. لكن العالم باللغة يفهم الجملة المخفية وهي ما بعد الاستثناء الذي ننصت إليه سواء كان مخطوطا على الورق أو ملقى في تسجيل صوتي بصري.. (إلاّ) المحذوفة بعدها حضور للجمال وتحفيز لتحضيره عنوة.. لتأسيس مأدبة فاخرة من الجمال أخفاه ( م. درويش) ليجلّيه تلقّينا..

لا نروم في هذا المتن ” محراب في كفّي ” للأديبة وداد الحبيب أن نتناول ما يتصل بأبسط التّعريفات للرّواية فهي خارجها بعد افتتانها باللّغة حمّالة المعنى العشقي الملتهب والمنير.. في غياب لحبكة قصصية وشخصيّات متناوبة الحضور ومشاهد وحوارات وإبداء الرّأي والرأي المخالف ووحدة موضوع العمل.. لا أرى هنا غير الولوج في عالم الدراما أو التراجيديا أو الكوميديا كما علمناه في المدونة الإغريقية منذ ثلاث مائة سنة قبل الميلاد.. حيث استبدّ الشّعر في كلّ شيء.. إنّما نلامس مبحث حرّية وتمرّد قائم على الضّبط في حالة تلبّس وجداني وإحالة على قاضي التأويل والتفسي في جمل شعريّة غضّة أحيانا ومنهكة في سير بطيء.. “من هنا بدأت القصّة. من هذه اللحظة وأنا أخطّ شيئا منّي على ورقة استودعتها أملي. أحاول لملمة الحروف على كفّي لأنسج طوفانا من سراب الحمام. لا تحدث أحدا عن ألمك. أمتبه فقط. امنحه أجنحة ليحلّق عاليا….(….) ربّما ينبجس برعم الحياة من جليد الغياب والصّمت. ربّما. ” ص 17+18 فنحن أمام ” تهريب شامل للحقيقة والوقائع في ” صوتيات حرفية مفعمة بالشّعر بين حزن وفرح وألم وغبطة.. وتوحي لنا كقارئين أن تحمّلنا عناء ثقل وزر الكشف والمكاشفة والاكتشاف وقد ذكّرتني ببيت شعري نسب للحجاج ابن يوسف الثقفي ” أنا ابن جلا وطلاّع الثنايا::: متى أضع العمامة تعرفوني” فلا وضعها ولا نحاها بشرط ” متى “.. فتقول في الصفحة 23 ” تلك الضّفة وحدها استطاعت أن تعيد الحياة لتثمر من جديد. ومنها ولدت هذه الرّسائل. فاقرؤوني تعرفوني.” .. ربّما نبرّر هذا المنهج لحرارة جمر الحقيقة المعيشة وضعف أصوات التبليغ عن شدّة وطأتها صلابة صخرها الأصم الذي لا يرحم.. فهل كانت محاورة الموت وبشاعته ومساءلته واستنطاقه الذي يحرم المرء من لذّة الكلام واطمئنان العيش.. ” من أنت أيها الموت حتّى تربك الإنسانية جمعاء وتبعثر بمجرّد ذكرك ترتيب الأكوان؟ من أنت؟ كيف يتجرّأ عليك من يقرّرون الانتحار ويمارسون المغامرات في أعالي الجبال وأعماق البحار؟” ص: 20  من هنا ازداد الافتتان بالنّص وكان الأقرب إلى قلب سارد لا يفكر في جنس الكتابة وأشعل سفن القواعد السّردية واكتفى بألواح منشورة على صفحة القول تسير بنسائم متمرّدة ولمسات خارقة للعرف المتداول.. وهنا تفصح مجدّدا عن هذه الرّوح المقاتلة بجسد أنهكه السؤال والعشق والمعرفة والحرّية و كلّ ما يحقّق نبض الوجود فنرى حقيقة لا لبس فيها في التعاطي مع هكذا أحاسيس ف فصل ” لعنة البدايات” :” كيف أبدأ الكتابة؟ كيف أثبت بعض السّواد التي عبّرته على البياض الذي يستفزّني؟ (….) خاطري الآن مساحة بياض شاسعة. وأنا فيه نقطة ضئيلة من الرّغبة المبهمة: بأي كلمات عساي أبدأ هذه الحكاية؟… هذه الخاطرة.. هذا القصيد.. هذا النّبض؟” ص 25  ولا تكون الإجابة إلا عن طريق الشعر في الصفحة 35 وبفصل ” إبحار بلا أشرعة:

” على عجل نسجت اللّيل بردا

وأسرجت الأماني من ضلوعي

بسطت العمر سجّادا ودفئا

وجسرا مدّ نحوك من دموعي

وأسكب في المدى شوقي يماما

يغرّد في المدى أو في ربوعي

أهيم وكلّ أحلامي سجود

فيورق نجم صبر من خضوعي” .

ف…..” أنا امرأة…

تخفي أنين النّاي في ثغر النّار

لا يحقّ لها اعتناق الأحلام

ولا المشي في حدائق الأوهام

تحمل ظلاّ لجسد موؤود قبل الميلاد

تكوّر شهوته كأفعى تطوّق خصر الانعتاق

أنا…

أنا التي أهدت الصّمت أشرعة من نسغ الغليان

فصفّقوا…

واهتفوا…

وهلّاوا…

اجعلوا من تقرّح أوراقي قربانا

بكت من صهده بذور الحرمان.” ص: 39-40

وفي طور من أطوار الضّعف والرّيبة من اللّغة التي لم تكن قادرة على رفع الحجب المستعصية.. لتشخّص السّاردة شاعرة بما تقول موغلة في صوتها الدّاخلي: ” تهرب منّي الكلمات المناسبة فأرجوها أن تتمهّل، أن ترحم ضعفي. هيّا ساعديني لنرحل بعيدا، لنراقص الشّخصيّات والأحداث والأرواح المسرّبة. لننسج معا عالما نسكنه.. عالما يشبهنا وإن كان من وضع خيالنا… أليس الخيال هو ظلّنا المشوّه وشظايا مرآتنا الحزينة؟” ص:26

وكأننا أمام تساؤلات مكتنزة الاشتراك مع المتلقي مثل لماذا لا نقدر على أن نسيطر على تفاصيل حقيقة الواقع المتعدّدة والمشتركة ولماذا يغيب بصفة عامة الوعي الكلّي أمام الوعي الذاتي والشّخصيّ الضّيق ؟ فهل الحقيقة كانت لتكون غامضة فلا تدرك؟..

ليس عيبا أن يكون هذا المتن أكثر شاعرية أو الشّعر بعينه طالما زرع في المتلقّي بذور الحيرة في كيانه فربّما يذكّره بفعل النظر في المرآة أو الوقوف أمام البحر بلحظات شبيهة وعميقة مرّ بها وتابعها بشغف المنتظر لنهايات مخاتلة لا تقنع أحيانا ولا تشبع نهمه المعرفي والوجداني.. فالمتلقي عادة لا يرحم ويطلب دائما لغة أكثر إفصاحا ولا يملّ من صوت الكلمات المدركة.. وهو الذي يعيش في عطش مستمرّ لنكهة اللّغة وما بعدها وجرسها وإيقاعها.. وإذا افتقد القارئ التّعلّق بما يسمع ويرى يمضي متسائلا ومطلقا لأحكام حاسمة قد تلغي الوصل وتنفي حمل الكتاب وجه الجدّ.. فيتساءل مرّات عديدة في كلّ سطر يقرأه ما حقيقة الكتابة في ” محراب في كفّي ” ؟ هل تكون نزعة تحرّر وابتكار في آن واحد للخروج عن تبعيّة الإخبار الذي يحدّد ويلجم العلاقة بين الرّاوي والمروي إليه؟ استعمالا لتقنيات لا تعترف بطرق سرد الخرافة أو المقامة أو أيّ شكل من أشكال المرويات والنقل الشّفوي المتعاهد عليه حيث يُفصل بين صاحب الحكاية السّارد والمتلقّي الذي وجب عليه الإنصات لا غير. إن الكاتبة وداد الحبيب لا تعترف في هذا المتن إلاّ بكون ما يفرزه قلمها و لا تكترث بموجبات طاعة المناهج السّردية إذا كان العمل رواية أو خاطرة أو شعرا أو غيرها فالأمام والوراء أو المغلق والمفتوح أو المتماسك أو المتشظي في النّص لا يغيّر من الإصرار على القول” كنّا نهيّء كلّ شيء لخلوتنا المقدّسة: نغلق النوافذ، نُخرس جرس الباب… نكتم أنفاس الهواتف… نضع العالم بين قوسين ونعلو. لم يكن ببساطة يعنينا ما يدور خارج عالمنا. لنا حديقتنا، جنّتنا نرويها من شغفنا، ونكون.” ص 15 هكذا تلوّح السّاردة الشّاعرة ببياض وسواد صفحاتها فهي الحريصة على كسب رهان القول وقرع أجراس البوح.. ليكون أدبها في خانة ” الخاصّة “أين يشفع التّلميح ولا التصريح والتّرميز لا الإفصاح ولتسخر من أجل تفكيك المعاني طالما يتحقق ركوب قوافل السّعادة التي بدّدها ذكر الألم دون أسبابه والموت الشنيع دون وصفه والجدران العالية دون تجاوزها. فتجيبنا السّاردة في ص: 99 ” جسدي علّتي الأولى. أليس كذلك سيدي؟ ” ثمّ ” وقعت عليّ الأسئلة كالصّاعقة. من أنا؟ ” ص: 101 .

وفي مطاف القول هذا الذي يشفع لها في الحضور تتكاثر نتوءات القلق والحيرة والأسئلة بعد أن انتهى دور “الجارة” الرمز بموتها المبهم وحملها على مشهد مزدوج توأد فيه الطفولة قبلها.. لتعلو تموّجات العزف الحزين لفظا يسقط وبدويّ عظيم كلّ المتن المسرود في عالم الشّعر حرصا على عينه حتّى لا تلبس الحزن وتعصر الألم مرّة أخرى..

” أنتَ

أيها البعيد القريب

أيّها الصّامت الصّارخ فيّ

هادئٌ أنت كالصّاعقة

كأنوثتي الثّائرة

ما بالك تراقص امرأة لم ترتو بعد من شغف القصيد؟” ص 102

وأمام محكّ هذه التّساؤلات وطابع التّمرّ وامتزاجها بعالمي الفلسفة والتصوّف وكليهما بالشّعر نجد إصرارا متواصلا من الأديبة وداد الحبيب للتفنّن في توزيع أهدافها الكثيرة عبر فصول المتن بطريقة لا تنقطع عن القول.. بمفهومه الجوهر المغلّف والمغلق في حياة عارضة ومؤقّتة لا تجد الوقت لاغتنام إيصال ما تفيض به الرّوح في فضائها من أحاسيس ووجدان حميم ملتهب يضيء.. لتحاول أن تتجاوز حدود الفكرة وسجون التّأمّل فلا مهرب من الوقوع في “معركة” أجناسية لا تلتفت إليها إذ كانت الغاية إنزال فوريّ لثقل فكري تواصل لعقود معلومة وسيرورة مأكّدة تعيشها ونعيشها كلّ يوم.. قد تكون ملاذا ملهما لأعمال أخرى أكثر تمرّدوالعثور على مسالك لمناطق إبداعية بكر فتعيد اكتشاف تجربتها الثقافية تجاوزا للشروط القاسية التي يفرضها بعض المتلقين والسّادة النّقاد في عالم لم تهدأ فيه الزّلازل المتتالية السياسية والصّحية..

هكذا كانت الأصوات التي استمعت إليها داخل هذا المتن ” محراب في كفّي ” للأديبة وداد الحبيب أصواتا متنوّعة ومثيرة للجدل والنّقاش الجادّ من حيث الغاياتُ والعلاماتُ الأخرى التي تنير الطّريق لكلّ مقاوم من أجل التّفكير والإبداع وردم أساليب التّعصّب لمنهج دون آخر وبناء حصون للحرّية والابتكار قد ينبئ بنسق كتابة هامّ تتأثّث به السّاحة التّونسية والعربية والعالمية عبر فصول جديدة دون السّقوط في التقليد وتكرار ما ابتدعته أقلام سابقة في تاريخ الأدب الإنساني.

 

زر الذهاب إلى الأعلى