الجزء الثاني من العشوائية 60… ما الذي يُبْقيكُما معا؟!

النشرة الدولية –
الدكتور سمير محمد ايوب –

ملحوظة: للإمساك جيدا بمفاصل النص، أنصح بقراءة الجزء الاول منه، والمنشور هنا يوم 17/1/2022.
بعد سنينٍ عِجاف في بحرِ الارتطامات السياسية المُفخَّخة، في اطرٍ مُعلَّبة مُكتظَّةٍ ببقايا رصاص، اختلط حابلُه بنابلِه، بعضهُ قاتلٌ يجاورُ رصاصا مغدورا بالتمويه والتتويه، ورصاصا منتحرا بالوهم، تعبت من حلم جذري، يعتبره المتحكم بالدفة الرئيس، وما يوازيها من ضفاف فرعية، ماضيا خشبيا مضى، وعَفَت عليه لعنة الواقعية.
ولكن، حين صار البقاء الأخرسُ لا يُطاق، حشوتُ جيوبي بكلِّ ما من أجلِه كنتُ هناك، وبقصدٍ رحَلْتُ بعيدا عن أقفاصِ التّدجين، وفواجعِ نفّذ ثم ناقش، وبعيدا عن عبثية المنافي الرمادية ، إلى فضاءاتٍ لا تكون امتدادا لما مضى، أو يَجمعُها به نبعٌ واحد.
إتكأتُ على عقليَ وضفافِه الأوسع، لعل كهوفُه تأويني، وغياهبُه تحتويني. عُدْت من المنافي البعيدة، بلا هدفٍ مُحدّد يتفق وجغرافيا شخصيتي المُشاغبةِ، العصية على التدجين.
في لجة هذا التحول الغرائبي انشطرت وتشظّيت، بين ماض باذخ بأوهام سياسية رجراجة خلتها أحلاما وطنية، وواقع مكتظ بخيارات هلامية وعناوين سابحة في ضباب، وتخمين سارح في سراب. فألفيت نفسي في هذا المجهول، وحيدا بلا أسوار زمانية ولا مكانية، فشعرت وسط جمر الحياة الجديدة، برهبة اليُتْم وعبثيته.
أوصلَتني أول صدف مظان المعرفة، إلى المكتبة الوطنية في عمان، باحثا عن وثائق ما حدث ويحدث في بلاد الشام. وهناك بين حدائق أرفف المكتبة، التقيتها تبحث عما كنت أبحث عنه. تعمُّقُها المنهجي في ما كنا نبحث عنه، جعل للوقت معنى، فأطلنا البقاء معا في واحدة من زوايا المكان، وبعد ساعتين من حوار متشعب، إستكملناه في الكافيتيريا الملحقة بالمكتبة ، استأنَسَتْ واطمأنَّتْ. وأيقظَتْ كلياتُها انتباهي من تكاسله. جاذبية مُسرفة في الحضور. ثقافة وارفة الظلال. بلاغتها القوية أضفت جاذبية محببة على ثرثرتنا. لأجد نفسي في نهاية اللقاء، أن أول خيوطها الحريرية قد أمسَكَت بي، تسحبُني إلى صخب الحياة، بعيدا عن بؤس اليُتم ِالسياسي، وقبضة أطره وصناديقه الضيقة.
وشِئنا أنْ نكرر اللقاءات بتتقارب مُلفِتٍ. تراكم خلالها كمٌّ مُمْتِعٌ من اهتمام عنقودي، تمدد في آفاق السافر من هواجسي، ونفذ الى أدغال المتلفع منها في دهاليزي.
صحيح أننا إلتقينا صدفة كالغرباء، ولكن بعض لحظات العمر إن عبرتك يا صديقي، تسهم أكثر من غيرها، في تشكيل حياتك. في البدء كان الكثير صامتا بيننا وإن ثرثر. ولكن نمت في ظلاله بدايات خارجية، وتغير متدرج من الداخل. عشقت وجودها الذي كان يتعمق بداخلي مع كل لقاء، حتى صرنا رأسين في قبعة واحدة، وغدونا روحا لجسدين لا ينفصلان إلا ليلتقيان.
بحنكة دقت نوافذي، دقة تِلو أخرى، وأشرعت أبوابي بابا إثر باب، وبصبر متأنٍّ غرفت من بحر قضاياي، ونحتت في صخر ملفاتي. بددت الكثير من الضباب والغبار الذي يلفها. وتحرك الاهتمام المشترك إلى مجالات جعلت من لقاءاتنا، واحاتا ظليلة نثوب إليها، هربا من موج التفاصيل في الحياة.
رغم أني لست ممن يجازفون بعبور طريق، إذا كانت الوجهة فيه احتمالا ، إمتلأت بها. عشقت وجودها بداخلي. بت أرى الحياة معها أجمل، بانتظار مواقيت يصح فيه العبور الى انتماء مشترك، بات عظْمُه مُكتسيا بما يكفي من لحم. كنت مقتنعا، بأن الأهم من أي عبور هو توقيت العبور، أو هكذا كنتُ أظن.
للحديث بقية …

زر الذهاب إلى الأعلى