النشرة الدولية –
النهار العربي- د. ماجدة داغر –
“إلى من سيكمل ما بدأت”، بهذا الإهداء استهلّت الشيخة مي محمد آل خليفة كلامها عن كتابها الصادر حديثاً عن مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث “بدايات، حكايات وتقاطعات” والذي أطلقته ضمن احتفالية العيد العشرين لتأسيس “مركز الشيخ ابراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث”.
وكأنها عبر هذا الإهداء، توصي الأجيال البحرينية الآتية بالحفاظ على صنيعتها الإبداعية، التراثية، المعمارية، والثقافية.
حملت الاحتفالية العشرين كامل بهاء السنوات الماضية التي عملت فيها المؤسِّسة، رئيسة هيئة البحرين للثقافة والآثار ورئيسة مجلس أمناء مركز الشيخ إبراهيم، على استعادة مكامن الجمال لمنطقة “المحرّق” التراثية في مملكة البحرين، إلى أنّ أصبحت هذه البقعة البحرينية، قبلة السياحة الثقافية ووجهة مرموقة ومقصداً للباحثين عن التاريخ والتراث والثقافة والجمال. وأمست هذه المعالم واحة علم وعمران تشمخ بها أزقّة “المحرّق”، حيث بداية الحكاية وحكاية الإبداع.
ثمانية وعشرون معلماً تراثياً، حوّلتها الشيخة مي بيوتاً حميمة للذاكرة وموئلاً لتاريخ أجدادها، ومساحات ثقافية تحتضن المعارض الفنية والبحوث العلمية والتاريخية، والندوات والمؤتمرات والأمسيات الشعرية والعديد من التظاهرات الثقافية التي شارك فيها أبرز الشخصيات الثقافية والمعرفية والإعلامية والفنية من المنطقة العربية والعالم، وقدموا خلالها عصارة تجاربهم وفكرهم في فضاء مفتوح من العلم والحرية والثقافة. وبذلك استطاعت آل خليفة أن تحوّل هذا الموقع الرائد إلى مشروع وطني أكبر هو “طريق اللؤلؤ”، وهو ثاني معالم مملكة البحرين التّراثية التي أدرجت على قائمة التّراث العالمي لـ”اليونيسكو” عام 2012، بعد نجاح المملكة بوضع قلعة البحرين التاريخية على القائمة عام 2007. ويمتد طريق اللّؤلؤ لمسافة تزيد على 3 كيلومترات بداية من هيرات اللّؤلؤ بالقرب من قلعة بوماهر، التي تعود إلى عام 1840، وصولاً إلى بيت سيادي في قلب المحرّق، والذي سيكون المتحف الرئيسي للّؤلؤ. ويمثّل المشروع متحفاً حيّاً في الهواء الطّلق ويؤسّس لتوثيق تاريخ حقبة زمنية في مملكة البحرين كان اقتصادها يعتمد على اللّؤلؤ.
حكاية “المحرّق” الجميلة، هي حكاية حلم وإصرار ومثابرة وشغف بتراث الأجداد. وهذا الحلم، المشروع لم يتحقق لمجرد التمني، إنما كانت دونه صعوبات ومشقّات كبيرة لم تمنع صاحبة الحلم من إعادة إحياء التراث واستعادة تاريخ بهيّ صنع حكاية المملكة الثقافية، وأهّلها أيضاً لأن تدرجها منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونيسكو) في 30 كانون الأول (أكتوبر) 2019 على قائمة “المدن المبدعة” في مجال التصميم.
يرتبط اسم مركز الشيخ إبراهيم بالشيخة مي محمد آل خليفة ارتباطاً وثيقاً، بعدما عملت طيلة عقدين على تحويل هذا التحدي الصعب إلى حقيقة، وحقيقة تشبه الخيال بمعاييرها الجمالية والإبداعية العالية، فحملت معها مدينة المحرّق والتراث البحريني إلى أرقى المحافل العالمية، واستحقّت بكل فخر اسم “المدينة المبدعة”، بعدما فازت سابقاً بجائزة الآغا خان للعمارة لعام 2019 لقاء مشروع “إعادة إحياء منطقة المحرق”.
في عام 2002 كان افتتاح “مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث” المدماك الأول في هذا الصرح الحضاري النهضوي الذي أسهم في وضع معالم مهمة من البحرين على خريطة التراث العالمي. وهذا المركز الذي تفرّع منه 28 بيتاً تراثياً حتى اليوم، استطاع أن يكرّس هوية ثقافية نهضوية تنويرية، عملت آل خليفة على تحقيقها ضمن استراتيجية وطنية تسعى لاستدامتها وإرسائها نهجاً مستقبلياً.
لم تكتفِ المؤسِّسة بما أنجزت حتى اليوم، وهي تسعى إلى الانتقال بمشروعها الحضاري إلى مدينة المنامة في تحدٍّ جديد وصعب، لا سيّما مع ما يتطلبه المشروع من رؤية وتصميم ودعم من الأيادي البيضاء التي تؤمن بالثقافة كاستحقاق حضاري للشعوب. وهذا ما آمنت به آل خليفة منذ البداية ووضعته حيّز التنفيذ تحت شعار “الاستثمار في الثقافة” حيث أولت السياحة الثقافية أهميةً كبرى لدورها في السياسات المستدامة والاقتصادية للدول، إذ تعكس غنى المخزون التاريخي والتراثي والحضاري للشعوب وتظهر فرادتها وتنوّعها.
ولا شك في أنّ خطوة كهذه تُعدّ مغامرة تحتاج إلى العمل عليها كاستراتيجية وطنية مستدامة، من أجل تكريسها كمورد اقتصادي بديل، وهذا ما نجحت آل خليفة في تحقيقه من خلال تعزيز السياحة الثقافية عبر تطوير البنى التحتية للمدن التاريخية، وحماية مواقع التراث الثقافي والطبيعي والارتقاء بالتراث الثقافي غير المادي لمناطق من المملكة.
بعد عشرين عاماً من مسيرة نجاح متواصلة، احتفلت المدينة المبدعة باستدامة العطاء الثقافي، على أن تكون المحرّق نموذجاً يقتدى مدننا العربية، والشيخة مي محمد آل خليفة ملهمة لكل من يؤمن بجدوى الثقافة وانتصار الأحلام.