اعتراف متأخر بمجزرة الطنطورة
بقلم: حافظ البرغوثي

النشرة الدولية –

”ومع طلوع الفجر، دخل عليهم رجال مسلحون وساقوهم إلى الخارج، مهددين بأعقاب البنادق وإطلاق الرصاص، وفي الطريق رأت رقية بطلة الرواية، الكثير من الجثث الملقاة بعضها لجيرانها ومعارفها..

ساقوهم إلى الشاطئ وقسموهم إلى مجموعات؛ الرجال في جهة والنساء والأطفال في جهة، وشرعت المجندات في تفتيش النساء،  وأخذ كل ما معهن من حلي وأي ممتلكات، ثم أخذوهم نحو المقبرة حيث كانت شاحنات في الانتظار لحملهم وطلبوا منهن الصعود تحت تهديد السلاح.

وقبل صعود رقية، صرخت وأمسكت ذراع أمها عندما رأت أباها وأخوتها جثثاً هامدة على بُعد أمتار قليلة منها وسط مجموعة من جثث لشباب القرية“..

بهذه المقدمة، وصفت الأديبة المصرية الراحلة رضوى عاشور في روايتها ”الطنطورية“ المجزرة التي تعرضت لها القرية الساحلية جنوب حيفا في سنة 1948، وصدرت الرواية سنة 2010..

والرواية على نسق ثلاثية غرناطة التي أصدرتها عاشور قبل ذلك، ورصدت فيها عبر أجيال معاناة عرب الأندلس من القشتاليين وكيف أجبروا على التنصر أو القتل أو الهجرة وكيف احتفظوا بدينهم سراً.

وفي الطنطورة، تعقبت عاشور الناجين من المجزرة في لبنان والأردن وسوريا، والتقطت تفاصيل المجزرة.

وهذه ليست إلا واحدة من سلسلة مجازر ارتكبت في منطقة الجليل، فأينما وصلت قوات العصابات الصهيونية كانت تعمد إلى قتل المدنيين وسلب أموالهم وإجبار الآخرين على الهجرة، سواء في الحولة أو الجرمق أو الرينة.

وكان طالب في جامعة حيفا سنة 1989 يُدعى ثيودور كاتس، قدم أطروحة ماجستير حول مجزرة الطنطورة، وفي حينه قدم عناصر في اللواء الذي ارتكب المجزرة دعوى قذف وتشهير ضده، وطالبوه بالتراجع عن نتائج بحثه، الذي شمل شهادات وأدلة على الفظائع التي ارتكبت بحق الأسرى الفلسطينيين، واضطر الطالب إلى الاعتذار تحت التهديد.

وعرض مخرج إسرائيلي الشهر الماضي فيلما، حيث بيّنت الشهادات والوثائق التي جمعها المخرج شفارتس لفيلمه، أنه بعد المجزرة تم دفن القتلى في قبر جماعي، يقع تحت موقف سيارات شاطئ الطنطورة.

وجرى حفر القبر خصيصاً لهذا الهدف، والدفن فيه استمر لفترة طويلة.

واستعرض الفيلم الوثائقي عملاً نفذه خبراء، قارنوا بين صور التقطت من الجو للقرية قبل وبعد احتلالها.

وبالإمكان، من خلال مقارنة الصور وتصوير ثلاثي الأبعاد نُفذ بمساعدة أدوات متطورة، تحديد الموقع الدقيق للقبر الجماعي وكذلك حجمه.

ويبلغ طوله 35 متراً وعرضه أربعة أمتار، حيث قال كاتس إنهم ”سعوا إلى إخفاء ذلك، بشكل يسمح بسير الأجيال القادمة هناك من دون أن يعلموا على ماذا يدوسون“.

وقال أحد الشهود في الفيلم الوثائقي، ويُدعى موشيه ديامانت، الذي كان جندياً في لواء ألكسندروني: ”أسكتوا هذا الأمر يحظر الحديث عن ذلك، قد تكون فضيحة كاملة، لا أريد الحديث عن ذلك، لكن هذا حدث“.

والشهود من لواء ألكسندروني الذين يتحدثون في الفيلم الوثائقي أصبحوا اليوم في التسعين من عمرهم أو أكثر، ويعترفون بارتكاب مجزرة الطنطورة.

وكان الجيش الإسرائيلي قد ذكر في حينه أن عدد الضحايا الفلسطينيين 20 قتيلا، لكن الشهادات التي تجمعت على مر السنين تتحدث عن أن عددهم يصل إلى أكثر من 200 قتيل.

لكن الأكثر وحشية في تلك الروايات، ما كشف عنه جندي آخر حين أخبر أن عددا كبيرا من المدنيين الفلسطينيين وضعوا في براميل من الصفيح،  وأطلقت عليهم النيران من مدفع رشاش، ليشاهد لاحقاً الدماء تسيل من الفتحات التي أحدثها الرصاص في مشهد دموي يعبر عن حجم الوحشية التي اتسم بها القتلة.

وبعد ظهور الحقيقة، شكل الناجون من المجزرة، والذين ظلوا في قرية الفريديس المجاورة لجنة لمتابعة قضية الحفاظ على المقبرة وفحص الجثامين وإعلان المكان بصفته مقبرة يجب احترامها وليس تحويلها إلى موقف للسيارات.

زر الذهاب إلى الأعلى