هشام ناجح لا أحد يغترب عبثا
النشرة الدولية –
عندما نحلق عاليا، ندرك هشاشتنا الذاتية، وتحدونا الرغبة في معانقة الحياة على أديم الأرض كلوعة مبهمة، كأننا لم نعرف صفة المشي يوما. إنها اللحظة الحقيقية لتقويم الانهيارات؛ لهذا كانت والدتي تعلم ثقل هذه اللحظة، كلما تعبت من شقاوتي، وقرفت من سلوكاتي، تدعو أن يعطيني الله طيّارة إن شاء. أخيرا استجاب الله لدعوتها، وأنا في عمر النبوة. الطائرة وجهتنا نحو الآفاق اللامتناهية. نحن لا نغترب عبثا. ثمة ظروف تحددها سياقات منسوجة في مستودعات الروح. إنها النداءات الخاصة التي كانت تدعوني من الهناك، بعدما انفلت الوطن من بين يدي، وأعطاني بظهره، شاهرا في وجهي سبابته بحركة بذيئة. الوطن الذي لم يعد يرغب في، و لم أعد أرغب فيه. ذقت فيه أبشع أيام التشرد والجوع وظلم القربى. الطائرة تشق السحاب في تماه مع أبهتي المؤجلة. أرقب الانتقال السامي، مستبدلا كلمة الوطن ب “المشروع”، وفق المفهوم الغرامشي.
لقد حل الصباح بداخلي. أمشي.. أمشي، وأمشي، والعمة فرنسا باسطة يدها وجسدها وعيونها الخضراء والزرقاء الفاتنة، الفتانة. تدعوني بأن أتصالح مع جسدي، ولغتي، بعيدا عن عقدة الاستذناب.
يا إلهي حل الليل أيضا بداخلي. لا مجال للسواد والأحلام الخبيئة. نور على نور.. أمشي.. أمشي، وأمشي، وليل العمة فرنسا ينحني من الزهو، يتمايل من فرط النشوة، ليس كليل الوطن عندما تعوي كلابه الجائعة السفاحة.
أمشي.. أمشي، وأمشي، وأنا أرقب الفجر على جادة نهر “لادور”، متنسما روائح الكرواسون والقهوة، ومتنغما بأطيط أحذية العمال وهم يخدشون جلال الصمت.
أمشي.. أمشي، وأمشي ودار الهجرة تفتح بابها لعشيقتي اللعوب السيدة الكتابة، تبدو نشوى هي الأخرى؛ من جلاء المعاينة، والتنفس من جوهر ذاتها. الكتابة الحقة هي التي تزحزح غبار التمثلات، وتغترب لتتجدد. يالعظمة القلم المهاجر أو المسافر الذي يسفر عن الأقنعة التي تطبع وجهه منزل الحضر عن مكانه، ومنزل الخفض عن نفسه. يالعظمة المساحات الشاسعات من الحرية المتنامية داخل كينونة الكتابة. إن الهجرة تعيد تركيبات الذاكرة والمخيال والاستحضار تحت يافطة ” اكتب من أنت لتعرف من أنت”. وتلقي بك إلى أتون الانغمارات والتنويعات لتنتج ما أنت في أشد الحاجة إليه، فتمرغ وجه اللغة في وحل اللاوعي، في وحل الخبايا والخفايا النفسية، وفي خضم المشاكسات التي لا تنتهي إلا بالتسويات بينكما على طاولة توازن الرعب. منذ أن تحرر جواز سفري أدركت الكتابة مبهاجها من جهة دلالة الذوق، الجمال، الحماس، والتقاطعات. على هذا النحو تشتغل الكتابة من تلقاء نفسها على مقومات الهجرة. فلكل مطار حكاية، لكل قطار حكاية، ولكل خطوة حكاية. ولنفسح المجال هذه المرة لدنيا زاد عوض شهرزاد التي استولت على الحكاية منذ البداية، حتى نترجم الصمت والإيماءات إلى أمم سرديات مرويات.
أمشي.. أمشي وأمشي، والعمة فرنسا باسطة يدها في تماه مع أبهتي المؤجلة…