هل حقق الربيع العربي أهدافه؟
بقلم: مصطفى النعمان
النشرة الدولية –
في كل عام تتكرر أسئلة كثيرة في العالم العربي عن إنجازات “الربيع العربي” الذي يطلق عليه مؤيدوه صفة الثورة، ويتمسك معارضوه بالقول إنه مثل انتكاسة للتطور الإيجابي الذي كان حاصلاً. وبين الرأي – الموقف لم يحدث حوار جدي بين أصحابهما لبحث الأمر واستخلاص النتائج، التي ربما أسهمت في تخفيف الاحتقانات التي خلفتها أحداث تلك الفترة، ولكن المؤكد أنها لم تحقق كثيراً من الآمال التي عقدها الشباب الذين تصدروا المشهد حينها. وسأتحدث هنا عن رأي شخصي في التجربة اليمنية.
لم تكن التظاهرات الحاشدة التي جمعت الشباب في ساحات المدن الرئيسة باليمن في بدايات شهر فبراير (شباط) 2011 نبتة شيطانية جاءت من الفراغ، بل مشهد كانت عوامل توقيت انفجاره تتراكم داخل المجتمع باختلاف مشاربه واتجاهاته خلال سنوات نظام الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، الذي وإن كان قد تمكن من تثبيت حكمه بالقسوة في بداياته وبسيف المعز وذهبه، بعد أن استكانت القوى السياسية وتسابقت لنيل رضاه والتعاون معه، عدا قلة من القيادات التي لم يتمكن من إغوائها، إلا أن قدراته أصابها الإعياء في سنوات حكمه الأخيرة، فترك الجيش والأمن لأبناء أسرته ليتقاسموا المواقع الرئيسة فيه، إما مباشرة أو عبر دوائرهم الخاصة.
لم يواجه الرئيس الراحل تحدياً حقيقياً مهدداً لنظامه خلال عقود حكمه، إلا في انتخابات الرئاسة عام 2006، التي نافسه فيها الراحل الكبير فيصل بن شملان، الذي قال لي نهايات عام 2009 أثناء زيارته العلاجية الأخيرة إلى الهند قبل وفاته، إنه مقتنع بأنه كان مستحقاً للفوز بالانتخابات. ثم عبر بسخرية مفرطة عن رأيه في تنازل أحزاب اللقاء المشترك عن حقه وهو الذي كان يمثلها، وقال إن “الأحزاب في اليمن لم تبلغ درجة النضج الكافي للوصول إلى حكم وأمامها مسافة طويلة لتفعل ذلك”.
الحقيقة التي يعرفها الجميع تؤكد أن الأحزاب السياسية لم تكن تملك الإرادة والقدرة لمواجهة الرئيس الراحل، وكانت أضعف من الحصول على أحقية التمثيل الشعبي عبر الانتخابات، متجاهلة أن فشلها يعود إلى جمود نمط تفكيرها بما يوائم الواقع، وابتعادها وانقطاعها عن الناخبين، هي الأسباب الجادة لمنظومة الفشل المستدام. وليس غائباً عن الذهن أن الأحزاب الصغيرة كانت عاجزة عن الحصول على مقعد أو اثنين في الانتخابات إلا برغبة صالح التنازل لها، كي يعطي ستارة ديمقراطية لمجلس النواب. ومن المفيد التذكير أن الشيخ الراحل عبد الله بن حسين الأحمر كان له كتلة نيابية عائلية في مجلس النواب، هي الثالثة من حيث عدد النواب، وأكبر من كتلة الاشتراكي والناصري والبعث مجتمعة. وكان الرئيس الراحل هو الذي يضمن للشيخ الأحمر موقعه كرئيس لمجلس النواب لاستقرار تحالفهم القبلي – المناطقي في الحكم، الذي بدأ مع وصول صالح إلى الحكم في شهر يوليو (تموز) 1978.
كان مفاجئاً للأحزاب خروج الشباب إلى الساحات اليمنية معبرين عن إحباطاتهم ومطالبين بالإصلاحات، ورافعين لافتة (ارحل) القادمة من ميدان التحرير في القاهرة وقبلها من تونس، بظن ساذج أن تنفيذ الشعار سيضع نهاية لكل الأخطاء والخطايا. لكن ما حدث هو أن الأحزاب (خصوصاً حزب الإصلاح)، سرعان ما تمكنت من الدفع بعناصرها الشابة ليشكلوا الأغلبية داخل الساحات، نظراً إلى قدرتها التنظيمية والمادية والإعلامية، فاستطاعت السيطرة على مساراتها ومخرجاتها، وزاد من نفوذها انشقاق الرجل القوي في نظام صالح منذ سنته الأولى الفريق (اللواء حينها) علي محسن الأحمر، وانضمامه إلى المطالبين برحيل صالح تحت مسمى (رئيس الهيئة العليا لقيادة أنصار الثورة الشبابية السلمية).
تسبب تخلي محسن عن صديق عمره صالح في إحداث شرخ عميق في معادلة الحكم القائمة على التزاوج بين المؤسسة العسكرية – الأمنية والروابط القبلية. ولم يستطع صالح لملمة الأمر، وفقد مهارة المبادرة التي حصنت حكمه لأكثر من ثلاثة عقود، وصار يتعامل مع الأحداث برد الفعل. ثم جاءت محاولة اغتياله داخل مسجد دار الرئاسة بداية شهر يونيو (حزيران) 2011، لتضع خطاً فاصلاً بين مرحلتين من تاريخ صالح واليمن.
اقتنع صالح خلال فترة علاجه في الرياض بالتخلي عن الحكم، وبقيت العقدة في التفاصيل وفي اسم الشخص الذي سيخلفه. كان صالح قبل حادثة المسجد قد قرر استبعاد نائبه عبد ربه منصور هادي من قائمة المرشحين، لكن المساومات والضغوط الخارجية والداخلية أجبرته على القبول به على الرغم من معرفته بالعلاقة الوطيدة التي كانت تربط هادي بعلي محسن، وتأييد حزب الإصلاح الدفع به إلى الواجهة.
تمت إزاحة صالح عبر المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، والواقع أنه ظل مربكاً للمشهد عبر تشبثه بقيادة المؤتمر الشعبي كأداة للتحشيد الجماهيري، وأيضاً لرغبته في الانتقام من الذين حاولوا اغتياله. وبقي أن ما سمي بالثورة تحول إلى تقاسم للحكم بين الأحزاب، وتمكنت قلة من التسلل إلى مواقع في الحكم مكافأة لهم على انتهازيتهم وانصياعهم للتعليمات. ومن الطبيعي أن الحصة الأكبر ذهبت لصاحب الاستثمار الأكبر، أقصد “حزب الإصلاح” الذي سيطر على رئاسة الحكومة وتحكم بها تماماً.
إن الثورة بتعريفها المجرد من المفردات الفخمة هي تغيير منهج الحكم سياسياً واجتماعياً وكذا رجاله. وفي الحال اليمنية، فإن شيئاً إيجابياً لم يحدث، بل إن القادمين الجدد تمسكوا بكل سلبيات النظام المُنقلَب عليه والتشبث بها والدفاع عنها لأنها منحتهم فرصة التفرغ للاستحواذ على المناصب في الداخل والخارج، وتسابقوا على الحصاد من دون التفات إلى الكفاءة أو التجربة، وتثبت مبدأ (الولاء قبل الكفاءة). والذي حصل أننا صرنا أمام نسخة مشوهة كسيحة من النظام المنقلب عليه.
يتغنى البعض، على سبيل تخدير النفس، بالقول إن أغلب الثورات تتعرض لانتكاسات ثم تعاود النهوض لتنفيذ مشروع أكثر جاذبية، بينما الواقع يشير إلى أن مجموعة صغيرة ذكية وانتهازية تمكنت بصلف من تصدر المشهد والمسار مدافعة ومعبرة عن الثورة الموعودة. في حين أن كان ما يجري فعلياً هو الاستيلاء على الوظيفة العامة من دون استحقاق ولا كفاءة، سوى أن الحاصلين عليها أمضوا وقتاً في الساحات وهذا -في ظنهم- يمنحهم الحق في اختيار المواقع داخل البلاد أو خارجها.
مثلت الأنظمة التي تمت إطاحتها الجزء الأساسي من المشكلة لأنها ترهلت، ولم تُنشئ مؤسسات قوية قادرة على مواكبة الطموحات المتغيرة والاهتزازات العنيفة التي تحدثها حركات التغيير القسري. وفي الوقت نفسه عجز “الربيع العربي” عن تحقيق الغايات لأنه كان بلا برامج ولا خطط عملية، وإنما محكوم برغبة التخلص من حاكم بآخر.