قانون استقلالية القضاء اللبناني: ألغام وثغرات لإبقاء قبضة الأحزاب
النشرة الدولية –
كتبت ريمان ضو لـ “هنا لبنان”:
تكرّس المادة 20 من الدستور اللبناني استقلال السلطة القضائية اللازمة لإحقاق الحق. وأحكام الدستور اللبناني تعكس بشكل عام أحكام الصكوك الدولية ذات الصلة، خصوصًا المبدأ الأوّل من المبادئ الأساسية المتعلقة باستقلال القضاء حيث جاء فيه أنّ “الدولة تضمن استقلال القضاء الذي ينبغي النص عنه في الدستور أو التشريع الوطني (…)”.
إلّا أن واقع الممارسة في لبنان يختلف عن النصوص، فالدستور في وادٍ، والتطبيق في وادٍ آخر.
بعد ثورة “17 تشرين”، وانفجار مرفأ بيروت وفي ظل ما توصلت إليه الأمور في التحقيقات القضائية ومحاولة كف يد المحقق العدلي القاضي طارق البيطار إضافة إلى ما تقوم به القاضية غادة عون مؤخرًا مع حاكم مصرف لبنان ومدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء عثمان، بات “قانون استقلالية السلطة القضائية” حاجة ملحة لتحقيق نقلة نوعية في العمل القضائي ولمكافحة الفساد وتحرّير القضاة من أي ضغط سياسي ممكن أن يتعرّضوا له.
منذ أربع سنوات بدأ مشوار قانون استقلالية القضاء، وتحت اسم “استقلالية القضاء وشفافيته” قدمت النائبة بولا يعقوبيان اقتراح القانون الذي كانت قد أعدّته “المفكرة القانونية”، ويهدف بشكل أساسي إلى “تحصين استقلال القضاء وتطوير آليات عمل الهيئات الناظمة له، صونًا لحقوق المتقاضين بقضاء عادل وفاعل ومستقل” كما ورد ضمن أسبابه الموجبة.
وكغيره من الاقتراحات نام هذا القانون في جوارير مجلس النواب وتحديدًا في لجنة الإدارة العدل، حتى عادت تحركات 17 تشرين وفرضت هذا العنوان مطلبًا شعبيًّا أساسياً، وبات قانون استقلالية القضاء وتحريره من سطوة السياسيين وتدخلاتهم، من أهمّ القوانين الأساسية والإصلاحية التي يطلبها المجتمع المدني.
ومنذ ذلك الحين، اجتماعات عدة عقدتها اللجنة النيابية الفرعية المنبثقة عن لجنة الإدارة والعدل قامت من خلالها بدمج اقتراح يعقوبيان مع اقتراحي قانونين مقدمين إلى المجلس النيابي، لتكون الخلاصة إقرار لجنة الإدارة والعدل في منتصف شهر كانون الأول 2021 صيغة معدلة من اقتراح القانون.
في الجلسة التشريعية العامة يوم الاثنين الماضي، أعادت الهيئة العامة للمجلس النيابي القانون إلى اللجان النيابية لدراسته مجددًا، ولم يكتب له تخطّي الجلسة العامة بعد اعتراض وزير العدل هنري خوري، الذي برر أنّه وصله منذ ثلاثة أيام، ولم يستطع دراسته كما يجب كما أنّه، لم يحظ بموافقة المجلس الأعلى للقضاء.
ورغم إصرار رئيس لجنة الإدارة والعدل جورج عدوان على القانون، إلّا أنّ بري أعاده إلى لجنة الإدارة وتمسّك بموقف مجلس القضاء الأعلى ووزير العدل على اعتبار أنّ “القانون لا يمكن سلقه سلقاً”.
على الرغم من أهمية هذا الاقتراح نظراً لدوره المحوري في تحصين النظام القضائي من التدخلات السياسية وتأثير السلطة التنفيذية عليه، إلا أنه يحوي ثغرات، لا بل ألغاماً.
أول المعترضين على صيغة القانون الحالي كان نادي قضاة لبنان الذي لفت إلى أن اقتراح قانون استقلالية السلطة القضائية بصيغته المطروحة حاليًّا لا يحقق الاستقلالية التامة التي يصبو إليها القضاة وطالب نادي القضاة النواب بالأخذ بالملاحظات كافة التي أبداها بشأن الاقتراح. كما طالب مجلس القضاء الأعلى إحاطة القضاة بمساعيه وأفكاره بشأن قانون الاستقلالية، إن لناحية مضمونه أو المهلة الزمنية المتوقع إقراره خلالها، كما الوقوف على هواجس القضاة وآرائهم، ومن ثم اتخاذ القرارات المناسبة في ضوئها.
رئيس مركز “ليبرتي للدراسات القانونية والدستورية” الدكتور محمد زكور يوضح لموقع “هنا لبنان” أن أي إقتراح قانون لا يلحظ آلية مستقلة للتشكيلات والتعيينات القضائية يعتبر دون جدوى، وشكك بصدق هذه السلطة بإقرار مثل هكذا القانون، وقد برز ذلك واضحًا في أكثر من محطة، آخرها مسلسل التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت.
وأشار زكور إلى أكثر من خلل ورد في هذا القانون:
أولاً: ينص القانون الحالي على أن مجلس القضاء يقوم بإعداد التشكيلات القضائية، ويرسل مسوّدة منها إلى وزير العدل، الذي يعود له أن يرفضها. وفي هذه الحال، يقوم مجلس القضاء الأعلى بمحاولة تذليل العقبات مع وزير الوصاية، وفي حال عدم الاتفاق، يقوم المجلس بالتصويت، وفي حال صوّت سبعة من أصل عشرة أعضاء تصبح نافذة.
إلا أن لغما آخر ورد في هذا الاقتراح: إذ أن وزير العدل يستطيع عدم إدراج هذه التشكيلات على جدول أعمال جلسة الحكومة لإقرارها، كما أن تصويت الوزراء على هذه التشكيلات تجعلها في قبضة الأحزاب السياسية، فيصبح القضاة رهينة السلطة السياسية التي تستطيع أن تقوم بترهيب أو ترغيب القضاة.
ثانيًا: ينص هذا الإقتراح على أن السلطة السياسية هي التي تقوم بإقرار التعيينات القضائية: (مجلس القضاء الأعلى، رئيس التفتيش القضائي ومدعي عام التمييز…) عبر إصدار مرسوم في مجلس الوزراء، ومن شأن ذلك أن يجعل من هؤلاء القضاة ضحية لمزاجات السلطة السياسية، وبالتالي يصبح كل طامح لمنصب ملزماً بمراعاة السلطة التي يمكن أن تسميه.
ثالثاً: لا بد من لحظ في أي قانون، ضرورة تحسين الواقع المعيشي والإقتصادي للقضاة، بعد تراجع رواتبهم، جراء انهيار العملة الوطنية، إلى 200 و 300 دولار أميركي، ما يجعل كل قاضٍ عرضة لأي نوع من أنواع الإغراءات المادية والوقوع في براثن الفساد.
ويضيف زكور أن “أكبر دليل على رفض هذه الأحزاب الإقرار باستقلالية القضاء هو اقتراح القانون الأخير الذي قدمه عضو تكتل لبنان القوي النائب زياد أسود الذي يسعى من خلاله إلى انتزاع صلاحيات مدعي عام التمييز ليمنحها إلى وزير العدل”.
وإن دل ذلك على شيء، فهو يدل على أن السلطة السياسية غير صادقة في تمرير وإقرار مثل هذه القوانين، ويأمل زكور بأن يصحح مجلس القضاء الأعلى هذه الثغرات، فمن مهام هذا المجلس أصلًا إبداء رأيه بكل الإقتراحات ومشاريع القوانين التي تطال الجسم القضائي.
إذًا، يشكل هذا الإقتراح القانون خطوة إلى الوراء في ما يخص إستقلالية القضاء، وهو في حال إقراره بصيغته الحالية سيمنع القاضي من استشعار إستقلاليته قولاً وفعلاً. والصورة ليست “وردية” كفاية، أقله ليست بحجم طموح الشباب اللبناني الطامح إلى تغيير واقعه.
وخطوة إعادة مجلس النواب قانون استقلالية القضاء إلى الإدارة والعدل رأى كثيرون فيها مماطلة وتسويفًا لإبقاء القضاء تحت سلطة قوى السلطة ووسيلة لتمييعه وذريعةً لدفنه، عملاً بمقولة “اللجان مقبرة المشاريع..”
وحتى ذلك الحين، فإن هذه التعديلات وحدها من شأنها أن تجعل من الاستقلالية المنشودة واقعاً ملموساً وليس مجرد حبرٍ على ورق، والأهم إعطاء القضاة القدرة على تحصين النظام القضائي من التدخلات السياسية، وضمان وضع تشكيلات قضائية لا تفصّلها الإدارة السياسية على مقاس طوائفها وأحزابها.