العسكر على الأرض والدبلوماسية على الطاولة
بقلم: حمزة عليان
النشرة الدولية –
كان بإمكان بوتين أن يضمن تحييد أوكرانيا دون الدخول في غزوته العسكرية المجنونة، فالغرب والعالم يتوسلان إليه بألا يدخل في حرب مع جارته بعد أن وضع 160 ألف جندي على الحدود وأجرى مناورات جعلت الأميركيين يحددون موعد وساعة دخوله، فقد هزت تلك العملية أوروبا بالدرجة الأولى، لكنه لجأ إلى الخداع والتضليل فما إن هدأت العاصفة قليلاً حتى انقضَّ على جمهورتي دونيتسك ولوغانسك في الشرق، وباقي المسلسل معروف.
إن من يطرح تلك المعطيات يرى أن الإمبراطور الروسي ذهب إلى أبعد نقطة واستخدم ترسانته الحربية المفرطة وباتت أوكرانيا تترنح عسكرياً بعد أسبوعين من القتال، لكن كلفة الحرب كارثية وقد تؤدي إلى نتائج غير محسوبة على اقتصاد منهك، هكذا يقولون، فماذا لو تبيَّن “لقيصر روسيا” أنه كان مخطئاً في تقديراته؟
ما زال النقاش مفتوحاً وباب الأسئلة مشرعاً: لماذا غزا بوتين أوكرانيا؟ واقع الجغرافيا السياسية يقول إن الغرب استفحل في التوغل نحو حدود روسيا، ولم يترك له هامشاً من الفضاء الروسي ليتحرك بحرية، أحكم عليه طوقاً أمنياً وحاصره، بحيث لم يعد له جار إلا ودخل في حلف الناتو، باستثناء بيلاروسيا.
كانت هناك أمنية بأن يحل “الناتو” نفسه بعد أن تفكك الاتحاد السوفياتي وانتهى حلف وارسو، لكن الرياح كانت تسير في اتجاه معاكس، ومع ذلك فإن تقديرات بوتين وتحضيراته ليست وليدة اللحظة بل تم التجهيز والاستعداد للمسألة مسبقاً، وليس صحيحاً أنها وليدة الساعة أو جاءت كرد فعل، فقد استغل ضعف إدارة بايدن والانسحاب الذليل للأميركيين من أفغانستان والتوجه نحو بحر الصين ومناطق نفوذ هذا العملاق القادم، وبنى حساباته على أن الأوروبيين لن يدخلوا معه في مواجهة عسكرية، بعد أن بلغ التشابك في المصالح الاقتصادية حده الأعلى، فانفتحت أوروبا على السوق الروسي وبالعكس.
دارت الآلة العسكرية المجنونة دورتها ومع كل يوم هناك متغيرات على الساحة الدولية، متغيرات أدت إلى فرض عزلة ومقاطعة وعقوبات ينوء تحتها الاقتصاد الروسي وتجعله في ورطة أمام شعبه والضرر الذي يصيبه، وعامل الوقت سيرسم اتجاهات المعركة، وربما كان سلاح النفط والغاز من أقوى الأسلحة التي سيتم الزج بها، والخسارة فادحة للطرفين الروسي والأوروبي، وما أكثر الرابحين من هذا الموضوع، وعلى رأسهم أميركا ودول الخليج العربي المنتجة للنفظ، فحجج ومبررات “الغزو” سيتم استحضارها مجدداً على طاولة المفاوضات والروس اليوم هم الذين يسعون إلى ذلك بعد أن أحكموا قبضتهم العسكرية على أوكرانيا.
بوتين يمسك بالأرض وفي الميدان ويفاوض من موقع القوة ويقول للأوكران وللغرب: إما تلبية الشروط الأربعة أو المزيد من قضم واحتلال المدن، فالجائزة الكبرى لبوتين أن ينال اعتراف أوكرانيا والغرب بضم شبه جزيرة القرم واستقلال الجمهوريتين الشعبيتين على حدود روسيا، وإذا ما تحقق له ذلك فعندها يصبح الحديث عن انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو أو نزع سلاحها النووي في دائرة المساومة.
وروسيا بوتين لم تكن بعيدة عن الاقتراب من حلف الناتو فهي “دولة شريكة من أجل السلام” مع هذا الحلف مثلها مثل أوكرانيا منذ عام 1994 والتنسيق قائم بينهما ولديها معرفة بأن كييف تخلت عن سلاحها النووي عندما تم التوقيع على اتفاقية بودابست عام 1994 وبضمانة أميركية وروسية معاً، ويبدو من سياق الأحداث أن طاولة المفاوضات ستحدد جائزة الحرب لبوتين والأيام كفيلة بإظهار ذلك، ولا أدري إذا كان الانتقام من الجغرافيا سيكون لمصلحة “روسيا القصرية”، فتسارع الأحداث من شأنه أن يبدل حتى في مواقف الحلفاء، وما أقدمت عليه روسيا من تعطيل لإبرام الاتفاق النووي بين إيران وأميركا كان واضحاً للمراقبين، ولتغريدة أحمدي نجاد ضد الاحتلال الروسي دلالات عميقة تقرأ في لحظتها.