المشترَك بين الصدمتين
بقلم: مصطفى أبو لبدة
إرم نيوز –
خمسون سنة تقريباً فصَلتْ بين الصدمتين النفطيتين الكبريين: الراهنة التي صنعتها واشنطن ردًّا على الاجتياح الروسي لأوكرانيا، والأولى التي كانت أطلقتها الدول العربية المصدرة للبترول بحظر نفطها عن الدول التي دعمت إسرائيل في حرب أكتوبر 1971، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.
صدمتان نفطيتان يتشابك فيهما البترول والسياسية بجبهات تبدّلت فيها أوراق القوة والضعف، لكن ليس بمعادلة صفرية يتساوى فيها الربح والخسارة بين طرفي المواجهة.
الصدمة الحالية ما زالت في بداياتها وساحتها الرئيسة هناك، إلا أن منطقة الشرق الأوسط وإقليمها النفطي يعرفون أنهم يدخلونها حلبة فوضى اقتصادية- سياسية فُرضت عليهم وتستدعيهم التحوط المضاعف.. وفي التفاصيل ما يُفسّر التوجّس ويبرر القلق.
تحصل الصدمة النفطية عندما تؤدي المقاطعة إلى اختلال ميزان العرض والطلب في السوق، فترتفع الأسعار إلى مستويات تضرب النمو الاقتصادي وتشعل التضخم في العالم كله.
والمشكلة لا تعود تقتصر على مشتري النفط بأسعار يتصور البعض أنها قد تنفلت بوحشية بعد مقاطعة الولايات المتحدة وبريطانيا لواردات الطاقة الروسية، فهي تشمل أيضاً منتجي النفط الذين ستتضاعف مداخيلهم بضع مرات، دون أن يكون البعض جاهزاً كفاية لإدارة الصدمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية، التي تمثلها العائدات النفطية الجديدة.
حصل مثل ذلك في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي وأنشأ حروباً أهلية ووسع الشقّة بين الدول المنتجة والمستهلكة للنفط.
المقارنة بين الصدمة النفطية الراهنة وبين مثيلتها قبل خمسة عقود، تتضمن مفارقات ليس أقلها أن الولايات المتحدة التي كانت مستهدفة في الأولى تحولت الآن لتصبح هي صاحبة المبادرة في التأزيم، ولأهداف تتجاوز ما هو معلن.
حصل في صدمة 1973 أن تسعة منتجين للنفط من العرب قرروا يوم الـ17 من أكتوبر الرد على إسرائيل بفرض حظر على إمدادات النفط إلى الولايات المتحدة وهولندا، أقوى حلفاء إسرائيل، ومن خلال خفض مستويات الإنتاج الإجمالية، وقبل ذلك كانوا رفعوا سعر نفطهم بنسبة 70 في المائة، مصححين نتائج اتفاق كان انعقد في طهران مع شركات النفط الغربية التي ترأس وفدها اللورد ستراثلموند، رئيس بريتش بتروليوم، وفيه تم تحديد طريقة لرفع معدل ضريبة الدخل والسعر المنشور للسنوات الخمس المقبلة.
أسعار النفط ارتفعت بنحو عشرة أضعاف بعد قرار الدول العربية حظر بيعه للولايات المتحدة ولمؤيدي إسرائيل..
وفي الروايات غير الموثقة أن وزير الخارجية الأمريكي آنذاك هنري كيسنجر مارس مع قيادات عربية عمليات تهديد وانتقام، تفاصيلها شائعة.
وفي وثائق حكومية بريطانية صدرت عام 2004، جاء أن الولايات المتحدة فكرت في غزو السعودية والكويت خلال الأزمة والاستيلاء على حقول النفط فيهما، كما طرحت للبحث مسألة تدبير انقلابات في بعض الدول العربية التي قادت أو شاركت في قرارات المقاطعة.
الصدمة النفطية الأولى التي أصبحت لاحقاً ضمن تراث وإنجازات الشيخ أحمد زكي اليماني، اندرجت في إطارها الأوسع كمحرك لتغيير النظام العالمي، بالرؤية ذاتها التي يجري فيها الآن الترويج لصدمة مقاطعة النفط والغاز الروسي، باعتبارها من مقتضيات نظام عالمي جديد يُراد له أن يتأسس على متواليات الحرب في أوكرانيا.
بعد أشهر من الحظر النفطي العربي وما أحدثه من فك وإعادة تركيب للاقتصاد العالمي، أصدرت كتلة عدم الانحياز في الأمم المتحدة قرارًا يطالب بإنشاء ”نظام اقتصادي دولي جديد“ تتم فيه إعادة توزيع الموارد والتجارة والأسواق بشكل أكثر إنصافًا، وهو ما أخذ شكله لاحقًا في نظام العولمة الذي يُقال في الأدبيات السياسية المتداولة إنه وصل نهايته بحرب أوكرانيا.
صدمة أسعار الطاقة 1973-74، يراها البعض أنها كانت حلقة من دورة أممية لتوظيف النفط سياسيًّا، تجددت عام 1979 بصدمة ثالثة مع انقلاب الإمام الخميني على الشاه في إيران، ثم تواصلت مع الحرب العراقية الإيرانية، لتصل ذروتها في احتلال الكويت وحرب الخليج.
وحتى عملية استخدام الولايات المتحدة، الآن، لسلاح النفط والغاز في محاولة استنزاف روسيا، فقد تبين بوثائق أخيرة أنها ليست المرة الأولى من نوعها؛ ففي مطلع الثمانينيات عملت واشنطن مع منتجين من منظمة أوبك على تخفيض كبير في أسعار النفط لمحاصرة الاتحاد السوفيتي لإطاحته..
أيامها جرى إغراق السوق، فانخفض السعر إلى 10 دولارات للبرميل، وكان ذلك يتم في ساحة النفط بموازاة ما كانت تفعله الولايات المتحدة في أفغانستان وأوروبا من أجل تفكيك الاتحاد السوفيتي وتصفية إمبراطوريته.
يجمع بين الصدمات النفطية الثلاث، 73 و79 و2022 أنها لم تكن مجرد ظواهر اقتصادية تحكمها آليات السوق في العرض والطلب، فهي سياسة في المقام الأول والنفط فيها أداة تحريك وتعميم، والباقي يتكفل به الإعلام.