دماء غزو أوكرانيا تُحيي دموع الثّورة السوريّة
بقلم: فارس خشان
النشرة الدولية –
هذه السنة، “أحيت” أوكرانيا الذكرى الحادية عشرة لاندلاع الثورة السورية، بحيث لم يكن المعارضون السوريون الذين دفعوا ولا يزالون، غالياً، ثمن دخول روسيا الى جانب “الحرس الثوري الإيراني” وأذرعه في المنطقة لدعم نظام بشّار الأسد، بحاجة الى بذل جهد كبير لتذكير العالم بقضيتهم.
أخبار المآسي الصادرة من أوكرانيا، أعادت المآسي السورية الى الواجهة وإلى الوجدان، إذ تجلّت سوريا، للمرّة الأولى، أمام المجتمع الدولي، كما لو كانت الحقل الذي اختبر فيه الرئيس فلاديمير بوتين سيناريوهات التدمير والتجويع والتهجير والقتل والاجتياح والدعاية التي يطبّقها، منذ الرابع والعشرين من شباط/فبراير الأخير، على امتداد الجغرافيا الأوكرانية.
الغوطة الشرقية التي كانت شهيدة أوّل هجوم كيميائي شنّه نظام بشّار الأسد ضد معاقل المعارضة، كما مدينة حلب التي انتزعتها القوات الروسية وحلفاؤها من خريطة المعارضة، بكلفة بشرية ومادية مرتفعة للغاية، عادتا الى الأدبيات السياسية والدبلوماسية والاستراتيجية الغربية، في ضوء ما ترتكبه القوات الروسية في كبريات المدن الأوكرانية.
وللمرّة الأولى، خرج نائب أوروبي هو رافائيل غلوكسمان، ليربط، في تعبير عمّا بات يفكّر به كثيرون، ما حصل في سوريا بخطة تستهدف أوروبا نفسها، حين كتب أنّ أوروبا كانت هدفاً لفلاديمير بوتين في حربه على سوريا وعلى جورجيا والآن على أوكرانيا.
وبمناسبة الغزو الروسي على أوكرانيا، أصدرت خمس دول أساسية في “حلف شمال الأطلسي” بياناً خاصاً بالمسألة السورية، هو الأقوى من نوعه، منذ سنوات عدة.
وأسقط هذا البيان الذي وقّعته الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا وإيطاليا، “قانون الصمت” الذي تحكّم بما سبق أن ارتكبته روسيا في سوريا، بتسليطه الضوء “على سلوك روسيا الوحشي والمدمّر”.
وأفشل البيان الذي أصرّ على وجوب إحالة ما ارتكب في سوريا من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية إلى المحاكم، كلّ المحاولات الهادفة الى تطبيع العلاقات مع نظام بشّار الأسد ورفع العقوبات عنه.
ولم يغب هذا الربط بين ما سبق أن تعرّضت له سوريا ولا تزال وما تتعرّض له، حالياً، أوكرانيا عن وجدان المعارضة السورية، إذ إنّ التظاهرات التي شهدتها مدن شمال – غرب سوريا التي عجزت موسكو عن ضمّها الى سلطة الأسد، على الرغم من المحاولات المتكرّرة، رفعت أعلام أوكرانيا “المقاومة” وحملت شعارات تطالب بإنزال أقصى العقوبات بفلاديمير بوتين.
ويعيش في هذه المناطق المستقلّة عن سلطة الأسد أكثر من أربعة ملايين سوري، فيما يعيش في الخارج، أكثر من ستة ملايين آخرين، غالبيتهم لاجئون في دول الجوار.
بطبيعة الحال، هناك نوعان من المرارة في التأمّل بالأدبيات الدولية التي تمّ استعمالها إحياءً للذكرى السنوية الحادية عشرة لاندلاع الثورة السورية.
المرارة الأولى سورية، إذ إنّ الغرب، منذ اضطّرت المعارضة، بفعل القمع الوحشي الذي قوبلت به سلميتها، إلى “عسكرة الثورة”، رفض تزويدها بتلك الأسلحة التي تعينها على مواجهة الدبابات والطيران الحربي. لقد أبقى الغرب الثورة التي دعمها لفظياً، من دون أيّ قدرة على مقاومة أعتى الأسلحة الهجومية والتدميرية، وبدا أنّه كان، في واقع الحال، يبارك ما ترتكبه القوات الموالية للنظام وداعموها الروس والإيرانيون، من مجازر.
وهذه “الخطيئة” التي ارتكبها الغرب، في سوريا يحاول، حالياً، أن يُكفّر عنها، في أوكرانيا التي تطالبه بأكثر من ذلك بكثير، حتى لا يجد نفسه، مجدّداً، يرتكب “خطيئة” من نوع جديد، سوف يدفع ثمنها غالياً، في زمن آخر، وفي دولة أخرى.
وليس هناك أبلغ ممّا يقوله، بهذا المعنى، فولوديمير زيلينسكي، الرئيس الأوكراني الذي فاجأ صموده العالم بعدما كان، في الأشهر القليلة السابقة، قد “سحره” الرئيس الأفغانستاني أشرف غني، وهو يهرب من بلاده، حتى قبل أن تتركها، في مسار عشوائي، القوات الأميركية.
المرارة الثانية أخلاقية، إذ إنّ إعادة الغرب الاعتبار الى معاناة السوريين من المآسي التي تسبّب بها فلاديمير بوتين، في مجلس الأمن بداية وفي الميدان لاحقاً، تأتي على خلفية استغلالية، إذ إنّ الخطر، حين وصل الى أبواب “الاتحاد الأوروبي”، أيقظ الملف السوري من سباته الاصطناعي، ليكون مادة في الحرب الدعائية التي جرى فتحها ضدّ روسيا.
الآن، يقرّ الغرب بأنّ الوحشية التي واجه بها النظام السوري وداعموه، في ظلّ استخفاف أميركي بالخط الأحمر الذي كان قد زعم الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما رسمه حول استعمال النظام السوري الأسلحة الكيمائية، قد فتح الباب أمام تمدّد تنظيمات إجرامية، مثل “داعش” الذي جرى استغلاله، أسدياً وبوتينياً، للتغطية على استعمال عنف لا مثيل له ضد المعارضة، بكل أجنحتها المعتدلة.
في حينه، لم يتوانَ أوباما الذي عاد أبرز أركان إدارته الى السلطة مع انتخاب الرئيس الحالي جو بايدن عن مفاوضة بوتين للتراجع عن العقوبة الواجب إنزالها ببشّار الأسد ونظامه، في ضوء المجزرة الكيميائيّة في الغوطة الشرقية.
وفي حينه أيضاً، استخفّ الغرب في أنّ بشار الأسد وداعميه الروس والإيرانيين، إنمّا يركزون كلّ قوتهم العسكرية ضدّ المعارضة التّغييرية، لإغلاق كلّ الأبواب الآيلة الى استنباط نظام جديد بالاستناد الى المبادئ والقواعد التي نصّ عليها القرار الرقم 2245 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، تاركين الحرب الفعلية ضد “داعش” للتحالف الدّولي.
على أيّ حال، هذا “درس” للتاريخ.
حاضراً، وانطلاقاً من ألمانيا، بدأت محاكمة مجرمي الحرب التابعين للنظام السوري الذين يتواجدون على أراضيها.
وهذه المحاكمات، في ضوء المخاطر التي استشعرتها كل أوروبا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، سوف تتمدّد نحو سائر عواصم العالم المتضامنة ضد مخططات فلاديمير بوتين.
والأهم، أنّ هذا التحالف الدولي أعاد ترتيب رؤيته لبشّار الأسد ونظامه، ولم يعد يجد فيه سوى نموذج شرق أوسطي صغير عن خطر روسي كبير.
ولم يكن ينقص هذا النظام السوري، سوى انتشار صور جنوده، وهم يبدون الاستعداد للتوجّه الى أوكرانيا ليشاركوا في المجازر التي تُرتكب ضد شعبها الذي أسقط التعاطف الأوروبي معه نظريات إقفال الحدود أمام اللاجئين، وها هو يمهّد، في حملات يومية يتولّاها قادة الرأي العام، للتخلّي عن مشاعر الأنانية عند كثيرين ممّن بدأوا يبدون استعداداً جدّياً، للعيش بأكبر قدر ممكن من “التقشّف”، في مقابل حرمان روسيا من مداخيل النفط التي تصل الى حدود ثمانمئة مليون دولار، يومياً، على اعتبار أنّها توفّر التمويل للقوات الروسية التي تتولّى غزو أوكرانيا.
كثيرة هي الثوابت الجيو استراتيجية التي بدأ الغزو الروسي لأوكرانيا تغييرها. بعضها، بالتأكيد، لن يكون في مصلحة هذا المحور أو ذاك، لكنّ بعضها، بالتأكيد، سوف ينعكس إيجاباً على قضايا تستحق كل اهتمام ورعاية ودعم، وفي مقدمها ما سبق أن تكبّدته المعارضة السورية وجماهيرها من تضحيات وويلات وخسائر وإهمال.
ولا يخطئ من يعتبر أنّ الخطر الذي تلمّسه الغرب من طموحات فلاديمير بوتين العسكرية، حوّل سوريا، في لحظة، إلى أوكرانيا الشرق التي تسبّب تسليمها الطوعي الى فلاديمير بوتين، بكوارث أوكرانيا الغرب.