لا أعلم كيف جاء ولا من أين؟

النشرة الدولية – ياسمين خدومة –

لا أعلم كيف جاء ولا من أين؟ كل ما عرفته عنه أنه الشيطان وقد تمثّل لي في صورة بشرية، تمتّع بقوة ذكاء خارق.

أتذكّره، فأضحك ربما لأنه ذكّرني بحكاية قديمة نسيتها أو تناسيتها.. عنوانها “خلقنا لبعضنا وضلّت طرقنا إلينا”.. لم أعد أعرف! شيطان كأنه يعرف أنني أذكر كل لحظة منها ويعرف كيف انتهت قبل أن تبدأ. تتقاسم أرواحنا وتتداخل، فأشعر بالتوسّع والتمدّد وبتطرّف الجنون. هو شيطان جرّب الألوان كلّها وهو يرسم بها العالم بسخريته الحادّة حينا، والملطّفة حينا آخر.

قلت له ذات ليلة معك أشعر بالأمان رغم أني لا أخاف. لا أخاف الكلاب السائبة ولا المسعورة ولا القطط السوداء، ولم أخف يوما الغوص في أعماقي ولا أخاف الصوت القادم من بعيد، أنا لا أخاف ما أفكّر به مهما يكن صادما لغيري في حيز أساسه الرضوخ والخنوع والتكالب والتآكل والتآمر.

أنا لا أخاف الظلمة التي تلفّ كل شيء، خطاي تجد طريقها وسطها. تمشي حذرة وبمقياس المخاطر لا تتوقف عن اكتشافاتها وتحليلاتها. أحيانا تركض بسرعة رياح مجنونة في جديلة من النقاط السوداء، وأحيانا تمشي ببطء شديد تحت الضوء السّاطع، وأحيانا يفيض شعاع غريب من وجه يرفّ على القلب بنوره الحي ونضرته المتلألئة التي تفضح أيّ شيء وكلّ شيء، فتقفز خطوتي بخفّة غزال، وأحيانا تتسلّل تحت تسلّط قوّة الضوء الأصفر بخطوات قطّ، وأحيانا أمام وميض ممزّق أو رعشة تدفع نفسها بقفزة نحو المجهول وهي بين الصحو والجنون، وأحيانا لا أرى ضوء فتكتشف خطواتي طريقها عند سماعي صوت اصطدام قطرات المطر بالأرض، أنا لا أخاف من أصداء نباح الكلاب القادمة من بعيد وأزيز الأبواب في الأزقة المظلمة والرطبة. أحيانا تتوقّف خطاي وسط الزحام فأطيل الوقوف بكسل أرمي نظراتي الهادئة التي تحتفظ في العمق بشيء من المشاهد العجيبة هنا وهناك كأن أشاهد الشمس تنزلق وهي تنذر بالانتهاء، فأنزلق معها بأنفاس منتظمة وأغيب، وأنسى كلّ الصور وكلّ الأصوات وكلّ الكلمات.

يبقى لكلّ خطوة وجه حقيقتها الخاصّ بها. أنا لا أخاف لأن مهما اعتقدنا أننا نسلك طريق السعادة ففرحنا لن يدوم، مهما تتالت الطعنات فهي لن تدوم، مهما صعدنا إلى الأعلى مآلنا السقوط في حفرة مغلقة مظلمة أسفل الأرض، مهما غطسنا وأبحرنا بالمحبرة فمآلنا المقبرة، مهما ومهما… شيئا لن يدوم، لكنّي خفت مما سأكتب عنك أيها الشيطان.

قلت في نفسي: لقد اجتهدت وربحت خساراتي فتخفّفت من ثقلي، ماذا سيجري في العالم إذا أنفجر صوتي؟ هل ستنقلب الدنيا ويصبح الأبيض أسود والأحمر أخضر، وهل سيصبح الأصفر أزرق والبنيّ بنفسجي؟ وهل سينقلب يساري إلى يميني؟ وهل ستصير الأرض في مسامات السماء؟ قلت في نفسي: كلاّ.. لن أخبره بشيء.

أنا أخاف حقا.. أخاف.. لأن الآخرين يقاتلون بعضهم بعضا والمنحوسين والمجرمين يقتلون الأبرياء.. أخاف لأني لن ألامس الأشياء مرّة أخرى بعدما لامستها مرّة و لن ألامس أشياء أخريات كنت قد لامستها دون حساب. أخاف إنها تعني النهاية وأن المسافة خائنة والوقت خائن، وترجمة مشاعري خائنة.. أخاف.. تعني أنّ العالم صار يمشي إلى الوراء.. وأنّ الدنيا نطقت بحكم واحد وهو الموت. الموت يتربّص على بعد خطوة، يكشّر عن أنيابه على بعد ذراع، أشتمّ رائحته على بعد شبر، في زمن حادّ الموت يقف بين لقمة ولقمة ويفقدنا قدرة ابتلاع الماء، فتغصّ الكلمات ويكتسب الزمن معنى آخر والمسافة بعدا آخر. إنني أخدع نفسي بالحركة والصبر والسفر والتطلّع إلى المستقبل. كل هذا لا قيمة له. كذبت حين قلت إني لا أخاف. الخوف يَربِض في حركاتي ويُركِض نبضاتي ركضاً، أصابعي تشتبك بالخوف. الخوف يجعلني متيقظة. متسمّرة. أنا أصرخ دون صوت.

أنا خائفة يا شيطاني الجميل أنا مؤمنة بأن المعجزات تأتي متأخرة دائما، ولربما كان من نصيب قلبي معجزة أغفو على نسائمها وشلالها وبركانها وعواصفها وأمطارها، وأكون فيها أسعد من مات في هذا الزمان! لا أعرف متى أو كيف تأتي فجأة، فتطغى على كل شيء وتنهي كل خوفي. لم أعد أريد شيئا. يكفيني أن أسمع أو اقرأ أو أرى أو أحلم بأنّ شيطانا مثلك يكسر جفاف قلبي، وشيطانا آخر أحتمي به من خوفي. هو شيطان الكتابة.

 

*من قصة الشيطان

زر الذهاب إلى الأعلى