فصل من رواية تصدر قريبًا للكاتبة هالة كوثراني بعنوان “يوم الشمس”
النشرة الدولية –
النهار العربي –
ربيع 2019
مسحتُ الألوان بقطعة القماش الخاصّة بتنظيفها. غسلت يديّ من الأحمر القاني. أطفأت الكمبيوتر. جمعت الأوراق المبعثرة حولي والتي لم أستخدمها بعد ورتّبتها في المحفظة الخاصّة بها. غيّرت ملابسي من دون أن أهتمّ بما أرتديه.
مشيت إلى المقهى. الرصيف موج هادر. كلّما حاولت الهروب من حياتي وجدتني في الماضي المقطّع الأوصال. مشيت إليه، إلى مَن أمضى مع أمّي العمر الذي لم أمضه معها. حسبت عدد الأعوام التي مضت منذ لقائنا الأخير… 28 عامًا فقط! ثمّ قبل يومين، يوم الأحد، استيقظ هاتف المنزل. رددت أنا، ولم أستوعب مباشرةً ما يقوله الصوت المجهول.
– مَن؟ ماذا؟
– وليد بدران، زوج أمّك. كيف حالك يا رؤيا؟ أنا هنا، عدت منذ مدّة. أريد أن أراك.
دخلت مقهى «صالون بيروت»، وقفت في وسط الباحة الخارجية، لم أجد أحدًا. وما إن تجاوزت الباحة ودخلت البيت القديم الذي حُوِّل إلى مقهًى، حتى نهض عجوز أنيق من كرسيّه القريب من الباب الرئيس. ابتسم لي. جلست قبل أن أسلّم عليه. وبعد جلوسي مددت يدي نحو يده فوق الطاولة الصغيرة. كأنّني سأموت من التعب إن لم أجلس في الحال، ولم أكن متعبة. بل لم أكن جاهزة للماضي. توقعت أن يقول إنّني لا أزال أشبهها. حصّنت نفسي، وقرّرت أن يكون كلامي قليلًا.
– تتساءلين لماذا ظهرت الآن.
لم أجب.
– كان يجب أن نلتقي قبل سنين، لكنّني كنت أعمى. مع الاقتراب من الموت تتّضح الرؤية.
سنموت كلّنا، فكّرت ولم أقل له شيئًا. أبي يموت كلّ ثانية. ابتسمت وقلت إنّني أشعر بالعطش. سارع إلى مناداة النادل وهو يرجوني أن أختار ما سأتناوله إلى جانب الماء. شعرت بطعمٍ مالحٍ في فمي وأنا أنتظر الماء. شعرت بأنّني أبتلع البحر وأنا أشرب من قنّينة الماء البارد، حتى القهوة التي أحبّها مُرّةً استغربت ملوحة مرارتها.
حاولت ألّا أنظر في وجهه برغم صدمتي بتغيّر مظهره. يبدو ظلًّا لصورته القديمة التي بقيت في ذاكرتي، يبدو شبحًا بلا لون ولا دماء تسري في عروقه. وهو يتفرّس في ملامحي باسمًا قبل أن يقول:
– أكاد لا أصدّق كم تشبهينها. كنت قد نسيت. أتعلمين؟ هذا الشبه أشدّ إيلامًا اليوم لأنّه أجّج شوقًا متراكمًا لا ينطفئ.
لم أقل شيئًا. ركّزت على شرب قهوتي المرّة والمالحة وأنا أتأمّل الفنجان. وبعد صمت قصير، تابع الأرمل الغريب، زوج أمّي:
– ليست كلّ امرأة مؤهّلة للأمومة بالمعنى الذي يروق الجميع. أمّك أحبّتك حبًّا لا يوصف. أنت تعرفين أنّها لم تخترني ولم تتخلّ عنك. كانت وفيّة لموهبتها وطموحها، وفهمت أنّ زواجها بأبيكِ غلطة. وكانت صغيرة في السنّ حين ارتبطت به، «زغيرة كتير، كتير».
– أعرف أنّها كانت صغيرة. أعرف. لكن لماذا الآن؟ الآن تريد أن تعيد سرد تراجيديا حياتي؟ ثمّ إنّنا كبرنا، والماضي أصبح بعيدًا. وفي كلّ الأحوال ما الذي سيغيّره كلامك الآن؟
تنحنح وليد كأنّ شرقة أخذته، وبدأ يسعل حتى ظهرت دموع في عينيه. كدت أشفق عليه. أناقته، التي اعتبرتها وقاحة عندما لمحته، بدت لي نقطة في مصلحته. الأزرق، الذي يرتديه، يمارس سحره عليّ، فألمح فيه البنفسجي. لم أفعل شيئًا خلال نوبة سعاله. كي لا أحرجه ادّعيت أنّني لا أسمع السعال الذي ظننته بيني وبين نفسي سيتسبّب بموته أمامي. تأمّلت سترته الزرقاء المائلة إلى الكحلي، ذاك الكحلي الجذّاب الحزين، لا الكحلي المطفأ الذي تصعب ملاحظته. ابتسمتُ حين توقف عن السعال.
– ستون عامًا من التدخين… قال.
لا تهمّني المعلومة، كلّ هذا لا يهمّني. تهمّني اللوحة وأحبّ أن أعرف متى رسمتْها أمّي وأين وكم استمرّت في رسمها. أحتاج إلى هذه التفاصيل التي هي سبب وجودي هنا الآن. لهذا قبلتُ أن ألتقيه، ولا أفهم حاجته إلى لقائي. أن يكون مريضًا، وقاب قوسين من الموت، تفصيلُ لا يهمّني. أن تكون أحبّته واختارته بدلًا من أن تختارني، واقع أصبح ماضيًا اجتهدت في إلغاء تأثيره المباشر في حياتي، أو على الأقلّ هذا ما أدّعيه.
– منعها عن الرسم، لا بدّ أنّك تعرفين. تخيّلي العالم بلا لوحات ميّ. أنا ظهرت لاحقًا بعد هروبها واختفائها. متّ مرّات عديدة قبل أن تبادلني الحبّ.
– ما الذي تغيّر الآن؟ ما الذي تريده منّي، ولماذا الآن؟
– أن تسامحيني، أنا لم آخذ أمّك منك.
– حديث السماح هذا لن أشغل نفسي به… «خلص» أسامحك. لكنّني أودّ أن أسألك عن اللوحة.
– أيّ لوحة؟
– اللوحة التي اختفت يوم قُتِلت ميّ.
– كانت تنوي أن تهدي هذه اللوحة إليك.
– متى رسمتها؟ قبل أن تعود إلى بيروت أم بعد عودتها؟
– هذه اللوحة مشروع حياتها، وحيٌ رافقها أعوامًا وآلمها، حملته صليبًا مثلما حملت فراقك صليبًا. ليس سهلًا تحمّل ثقل الموهبة. باختفاء اللوحة ميّ قُتِلت مرّتين.
لم أفتح فمي لأخبره أنّ اللوحة وجدت طريقها إليّ قبل أيّام فقط، حتى إنّني ظننت اتّصاله بي مرتبطًا بظهورها. وهو لم يقل شيئًا. صمتنا ونحن ننصت إلى صوت المؤذّن يصدح من الجامع القريب وإلى هدير المولّد على سطح شاحنة تملأ خزّانات المباني بمياه الخدمة، وشاحنة مثلها توزّع المازوت كي تعمل مولّدات الكهرباء. أمّا أنغام معزوفة «المواسم الأربعة» لفيفالدي التي نسمعها من داخل المقهى، فبالكاد تنجح في منافسة موسيقى الشوارع البيروتية.
– في أيّ وقت من النهار فضّلت أمّي الرسم؟
– في الليل غالبًا، كان النوم عدوّها.
– لماذا لم تردّ عليّ بعد سفرك حين حاولت الاتّصال بك بعد أيّام على الدفن؟
– لم أكن قادرًا على الردّ عليك، كنت غير قادر على التفكير، الحزن يعمي كما تعرفين.
– إذن اتصلت بي بعد 28 عامًا كي أسامحك؟ فقط؟
– لم أستطع يومًا مواجهة وجود أبيك، فضّلت أن أمحوه وأمحو كلّ مَن يعيش في عالمه. الآن أشعر بأنّني قريب من النهاية. لهذا عدت.
– أسامحك… أسامحك… كرّرت بصوت واضح.