والغزالة رايقة
بقلم: مصطفى أبو لبدة
إرم نيوز –
أيضاً الجائحات لها في دفتر النشوء والارتقاء وظيفةٌ تُصحّح بها ما تراكم من أخطاء بشرية وإنسانية.
حصل هذا في أوبئة الطاعون التي ظلت تجتاح المعمورة تباعاً منذ بداية التاريخ المدوَّن، وتعيد ضبط الشطط بالإزالة والشطب والتعديل.
وهو ما أنجزه طاعون أثينا اليونانية 430 قبل الميلاد، إذ امتد إلى شرق المتوسط، مروراً بالطاعون الانطوني الذي ضرب الإمبراطورية الرومانية بين عامي 165 و190 ميلادية وحملته قواتهم العائدة من غزو الشرق الأدنى.
استمر خمس سنوات أمات فيها ثلث سكان القارة، مروراً بالإنفلونزا الإسبانية، التي أعقبت الحرب العالمية الأولى وخلّفت ملايين القتلى وتسببت بفيروس الإنفلونزا (أ) الذي تواصلت متحوراته حتى آلتْ إلى كوفيد-19 وهو الذي ما زلنا نجاهد للخروج منه بأثمان ومستحقات غيّرت الكثير من السلوكيات الإنسانية الصدئة والفائضة عن الحاجة، أو التي جعلتها الثورة الصناعية الرابعة مُستحقّة التغيير.
بهذا المعنى لوظيفة الوباء الأممي، ربما يصحّ توصيف الحرب على أوكرانيا بأنها جائحة، من زاوية قابليتها لعبور الحدود القارية، ولجهة أن الذين خططوا لها منذ 2008، كانوا– كما كتب هنري كيسنجر في الواشنطن بوست عام 2014 – يعرفون أنها قادمة وربما ضرورية لتصحيح خطأ جيوسياسي متراكم، ولبناء نظام عالمي جديد.
القوة التصحيحية المنظورة لحرب أوكرانيا، كأوّل حرب برية كبيرة في القارة الأوروبية خلال القرن 21، تبدو قوّة مُركبّة ومضاعفة؛ فهي اقتصادياً تمسك برقبة جائحة كورونا التي كانت أجبرت العالم (بما فيها الدول العربية) البدء بإعادة هيكلة اقتصادياتها، ثم لم تلبث أن استرخت.
حرب أوكرانيا سيّست الطاقة بالقرار الأمريكي مقاطعة البترول والغاز الروسي، فأضحى طبيعياً وحقاً مشروعاً لدول الخليج العربية أن تُسيّس هي الأخرى نفطها، كما فعلت في حرب رمضان 1973، مع فارق أنها هذه المرة طوّرت وحدّثت مفردات تسييس النفط بأن جعلته – في معادلة الشرق الأوسط – قوة تصحيح لأخطاء الاستهانة والعشوائية والتجريب والخذلان الأمريكية، وفوقها أخطاء واشنطن في الانحياز الضمني لإيران.
أرقام الاستطلاعات توثّق كيف أن الثقة بالحزب الديمقراطي الأمريكي، وبهيبة الرئاسة في واشنطن، لم يسبق أن تجرّفت في الشرق الأوسط، بهذا الحدّ الراهن.
كل الذي فعلته الدول العربية الرئيسية في الأوبك، بعد تسييس واشنطن للنفط، هو أنها استخدمت حقها في التحكم بقدرتها الإنتاجية ورفضت التجاوب أو حتى الاستماع للاتصالات والوسطاء الأمريكيين.
وفي الذي يتسرّب من معلومات أنها حقّقت بعض ما أرادته، وانتقلت في حقوق السيادة على ثرواتها النفطية ليس فقط إلى تنويع شركائها وأسواقها في الطاقة. وإنما أيضاً إلى التلويح بتصحيح اتفاق عمره نصف قرن يربط تسعير النفط بالدولار.
كل الجائحات العابرة للحدود لها وجهان، الأول أسود، والثاني أخضر بدرجة الكاكي يعِدُ أو يقضي بتصحيح الأخطاء السياسية والإنسانية التي تراكمت واستحق تغييرها. وجائحة حرب أوكرانيا (وهي التي تتوسع من فوق مخلّفات وباء كورونا) نموذجٌ على ذلك، في تصنيع ”المصائب التي لها عند أقوام أخرى فوائد“.
في الأسبوع الرابع من شهرها الأول، أفرزت حرب أوكرانيا جديدين غير مسبوقين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أو لنقُل منذ خمسينات القرن الماضي: أحدهما في بروكسل والثاني في شرم الشيخ.
يوم الإثنين الماضي، اعتمد وزراء دول الاتحاد الأوروبي ما سمي بـ“البوصلة الاستراتيجية“ الجديدة، ردّاً على الاجتياح الروسي لأوكرانيا، في الوثيقة توصيفٌ رسمي لروسيا بأنها عدوٌّ يهدد أوروبا وحلف الأطلسي، وفيها استحداث لقوة تدخل سريعة طليعتها ستكون قتالية ألمانية تصل ألفي جندي.
أكثر من ذلك وأدعى للاستنفار الأممي، ما اعتمده المستشار الألماني الجديد، أولاف شولتس، من تمويل بدفعة أولى 100 مليار دولار لعسكرة ألمانيا، وهو قرار كسرت فيه بون ما بقي من نتائج الحرب العالمية الثانية ومن طقوس الحرب الباردة التي كانت تحظر العسكرة على برلين.
عودة ألمانيا للعسكرة تعني الكثير الكثير، بغّض النظر عما إذا كانت حرب أوكرانيا ستنتهي غداً أو تطول وتتوسع، مثلها في ذلك مثل حرب الطاقة التي فتحتها واشنطن بمقاطعة نفط وغاز روسيا، وهي تعرف تماماً أن تداعياتها ستعيد كتابة قواعد الاقتصاد العالمي من أساسياته بعد أن كانت كورونا دقّت جرس الإنذار الذي يقول إنه بات اقتصادا يستوجب الهيكلة.
إذا كانت أزمات الطاقة في عامي 1973 و1979 (الحرب العراقية الإيرانية) اكتفت بتعميم صدمة ارتفاع الأسعار والنمو التضخمي وبإجبار الصناعة العالمية على تقليص أحجام السيارات وترشيد استهلاك البنزين، فإن أزمة الطاقة هذه المرة تبدو مصمَّمة لتقريب فترة انتقال العالم للطاقة النظيفة والبديلة لتكون مع 2035 بدلاً من 2050.
كما أن إخراج روسيا من نظام ”سويفت“ المصرفي بات مؤكداً أنه سيجبر العالم على اعتماد أنظمة مالية بديلة لترتيبات بريتون وودز التي أفرزتها نتائج الحرب العالمية الثانية، مأخوذا بالاعتبار الآفاق المفتوحة للعملات المُشفّرة.
الجديد الثاني الكبير الذي أفرزته حرب أوكرانيا قبل نهاية شهرها الأول، حصل في الشرق الأوسط.
يوم الثلاثاء الماضي، انعقد في شرم الشيخ لقاء ثلاثي اختصرته الصورة الرسمية وقد ظهر فيها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يتوسط ولي عهد أبو ظبي نائب القائد العام للقوات المسلحة الشيخ محمد بن زايد، ورئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، وفي الذي نُشر مِنْ حيثيات المؤتمر الذي وُصف بأنه ”حدثٌ غير مسبوق“، أنه تناول التداعيات الاقتصادية لحرب أوكرانيا وملفّيْ الطاقة والأمن والأمن الغذائي، فضلاً عن مراجعة وتقييم خطر إيران على دول الجوار وما يمكن أن تسفر عنه مباحثات فيينا بشأن ”النووي الإيراني“.
مرة أخرى: قبل نهاية الشهر الأول من ”جائحة أوكرانيا“ التي تبدو طريقاً طويلاً لا ضمانات فيه لأحد بانتصار مبكر وحاسم، ما دام أن كل الأطراف مستعدة لدفع التكاليف، فإن هذه التغييرات في قواعد اللعب (عندهم وعندنا) تستنهض المخيّلة لتجريب ”السفر التخيّلي في المستقبل“، والقراءة في الذي يمكن أن يؤول إليه الحال، في عام 2025 على سبيل المثال، استقراء الحالين الشخصي والعام.
تجربة السفر المستقبلي-إن حاولتَها-، يقولون أنها تقتضي مزاجاَ رائقا لقراءة حجم المغالق والفرص وربما المصائب التي تصنعها الجائحة الراهنة المفتوحة.
ذات مرة، سئل الروائي المصري العبقري نجيب محفوظ عن ”الأحوال“، فقال: ”عندما تتكاثر المصائب يمحو بعضها بعضاً وتحلّ بك سعادة جنونية غريبة المذاق، عندها تستطيع أن تضحك من قلب لم يعد يعرف الخوف“.
غزالة نجيب محفوظ كأنّها يومها كانت رايقة.