الوطن الذي أتعبوه.. فأتعبهم!
بقلم: أحمد الصراف
النشرة الدولية –
ذهبت إلى لبنان لقضاء عشرة أيام، لكن المقام امتد لضعفي ذلك من أيام.
يصعب على من وقع يوماً في غرام تلك الغادة الحسناء، أن يرفض زيارتها ورفقتها، ويهجرها وهي في أرذل العمر، فما تبقى من تلك الغادة من حسن وجمال وطلاقة لسان وكرم طعام وغنج طقس ودلع طبيعة يصعب عليه هجرها كلياً وعدم الشوق لها، وابتغاء لقائها ووصالها، ولو في أصعب الظروف.
الحاجة أم الاختراع، ومن له حيلة فليحتل، وهذا ما تجده في لبنان بكل وضوح، بعد أن ضرب الغلاء جيوب غالبية اللبنانيين وقلوبهم وبطونهم، وفقدت عملتهم قيمتها، وأصبح الدولار الواحد يتقافز سعره من عشرة إلى عشرين إلى ثلاثين ألف ليرة، بعد أن كان لعقود فقط 1500 ليرة للدولار، قبل أن يراوح مؤخراً عند العشرين ألفاً! لم يحدث ذلك بسبب حرب أهلية، بل نتيجة فساد الطبقة الحاكمة الذي تسبب في «إفلاس الدولة» مالياً، وإفلاس المصارف، التي جمدت حسابات عملائها بالدولار، ويقدر إجماليها بـ120 مليار دولار، وأغلبها قروض للدولة.. المفلسة!
***
منذ نصف قرن والكهرباء تشكو من مجموعة علل، وهذا دفع الناس مبكراً إلى الاستعانة بالمولدات الصغيرة في البلكونة أو السرداب، أو الاتفاق مع آخرين على الاشتراك مع شركة كهرباء خاصة لديها مولدة ضخمة!
تاريخياً، جزء كبير من كهرباء لبنان يسرق بعلم الدولة وأمام نظرها، وأحياناً يكون السارق والجابي والحامي شخصاً واحداً. ومن يسرق يبرر فعلته بأن الدولة، والسياسيين، يسرقانه، فلماذا لا يبادلهما الأمر؟
ومنذ أكثر من عشرين عاماً والدولة ترصد الملايين لمعالجة مشكلة الكهرباء، وينتهي عهد الوزير وتتبخر الملايين معه، وتتفاقم المشكلة أكثر!
استمرار انقطاع الكهرباء حوّل شركات بيع المولدات والمازوت (الديزل) إلى مافيات أقوى من الدولة، وبإمكانها تعطيل أي مشروع لتطوير الطاقة الكهربائية، فكل تأخير في ذلك يعني ملايين أكثر في جيوبها. ووضع لبنان مع مافيات المولدات والديزل يشبه وضعنا مع حملة الشهادات المضروبة أو غير المعادلة! فكشفهم يعني خسارتهم وأسرهم لمورد دخلهم، ومع الوقت يزداد عددهم وتقوى شوكتهم ويتضاعف خطرهم، ويصعب استئصالهم!
تقلص تزويد المواطنين بكهرباء الدولة، شبه المجاني، لساعتين أحياناً، وغالباً يأتي التيار في ساعات الصباح الأولى، وهذا دفع أسراً كثيرة للقيام بأعمال الغسل والكي، في تلك الساعات المبكرة، وحتى القيام بالطبخ على الكهرباء، بعد الارتفاع الجنوني للغاز!
من تجربتي الشخصية دفعت خلال شهر ما يقارب الألف دولار تقريباً لشراء مازوت التدفئة وتسخين الماء، إضافة لحصتي من تكلفة مولد كهرباء البناية. والسؤال: كيف يتدبر الغالبية أمورهم، في ظل كل هذا الارتفاع الجنوني في أسعار الوقود، وضياع أرصدتهم في البنوك، وانهيار الليرة، وفقدان مئات آلاف الوظائف؟ الجواب بسيط ومعقد في الوقت نفسه.
فهناك من %5 إلى %10 من اللبنانيين لا خوف عليهم، وأوضاعهم المالية، غير معروفة المصدر غالباً، مريحة، وسيستمرون كذلك في كل الأحوال، بعيداً عن الأوحال!
من %60 إلى %70 لديهم فرد أو أكثر في الأسرة يعمل أو يعيش في المهجر، ويستعان بتحويلاتهم الشهرية.
ما تبقى من «معترين» لهم من يساعدهم في الداخل من خيّرين ومؤسسات دينية، مسيحية بالذات، وجمعيات إنسانية، وحتى سياسيين طامعين في أصوات هؤلاء الانتخابية، وبشكل عام فإن كل طائفة تقوم بمساعدة المحتاجين من أبنائها!
وقلة قليلة تستجدي أو تقتات من صناديق القمامة!
يبدو الوضع العام هادئاً، على السطح وربما سيدفع الجوع والمرض والبرد البعض للثورة على الوضع، ولكن احتمالات نجاح أية حركة مسلحة ضئيلة، وأيضاً بسبب النظام الطائفي. فالثورة بحاجة لقيادة، فمن أية طائفة سيكون؟ كما أنها تتطلب مشاركة الجميع فيها، وهذا صعب، فكل طائفة تريد من أتباع الطوائف الأخرى التضحية والتعرّض للضرب أو الاعتقال وربما حتى الموت، نيابة عنها، كي تنجح الثورة، ليستفيدوا منها هم تالياً.
المهم أن الوضع شبه طبيعي، وحالات فلتان الأمن شبه معدومة، بالرغم من أن الغش طال كل شيء تقريباً، ولكن زيارة لبنان أصبحت ضرورية، لمحبيه والقادرين عليه. فاللبنانيون بأمس الحاجة إلى وجود السائح بينهم، وللشعور بالاطمئنان أيضاً، ويجب ألا يترك لبنان لمصيره، وإن حدث الانفجار فستكون له مقدمات وسيكون هناك دائماً وقت لتدبير الأمور والمغادرة.
باختصار: لبنان بلد التناقضات، والفرح والحزن، وإن أحببته عليك تحمّل كل ما يأتيك منه، فأيام الصبية الغنوجة ولّت، وعليك القبول بصحبة الأرملة، التي لا يزال بإمكانها أن تعطي الكثير!
***
يقول فريق إن كل مآسي لبنان أسبابها سياسية!
وآخر يقول إن السبب هو طبيعة الشعب اللبناني نفسه!
انتخابات أيار (مايو) 2022 ستجيب عمّن هو المسؤول.