الصناعة الوطنية اللبنانية تقاوم جملة عوامل سلبية… وتصمد
بقلم: باتريسيا جلاد
النشرة الدولية –
نداء الوطن –
وسط انطباع بدأ يتكرّس أكثر فأكثر منذ اندلاع جملة الأزمات المالية والنقدية والمصرفية في البلاد في 2019، بضرورة شراء الصناعات اللبنانية والإعتماد عليها في السلة الإستهلاكية، بعدما تراجع الاستيراد من الخارج بقيمة 5,6 مليارات دولار خلال عامين بسبب شحّ الدولارات والكلفة المرتفعة للسلع المستوردة، وإظهار الصناعة الوطنية قدراتها الإنتاجية والتنافسية نسبياً، أكّد رئيس جمعية الصناعيين فادي الجميّل لـ”نداء الوطن” أنه “لا يمكن في المحصّلة القول إن التدهور الإقتصادي حسّن أو أفاد القطاع الصناعي، وإنما كشف قدرات الصناعة المحلية التي لم يكن المسؤولون على دراية بها. فأين هي الصناعة المحلية اليوم في الإستهلاك المحلي، والى أي حدّ تأثرت بالأحداث المحلية والإقليمية؟
أدت الازمة الاقتصادية والمالية التي يشهدها لبنان والمستمرة منذ نهاية 2019 الى تراجع في حركة الاستيراد والاعتماد جزئياً على الصناعات والانتاج المحلي.
تطوّر الإستيراد والتصدير
أكد الباحث في شركة الدولية للمعلومات محمد شمس الدين لـ”نداء الوطن” أن “فاتورة الاستيراد سجّلت 13,640 مليار دولار في العام 2021 مقابل 19,239 ملياراً في العام 2019 اي بتراجع بقيمة 5,6 مليارات دولار وبنسبة 29,1% خلال عامين، كما ارتفع التصدير 4%”. لافتاً الى أن “التراجع في الاستيراد ادى الى زيادة الاعتماد على الانتاج المحلي والصناعة المحلية التي اصبحت تستحوذ على 85% من الحاجات الاستهلاكية الاسياسية مقابل نسبة 65% قبل الازمة”.
وأضاف: “كما تخلى او حدّ اللبنانيون من شراء الكماليات، مثلا تراجع شراء السيارات الجديدة والمستعملة من نحو 65 ألف سيارة الى 25 ألفاً”، وكذلك الأمر بالنسبة الى الهاتف الخلوي والعطورات والألبسة.
كل ذلك جاء قبيل الحرب الروسية على أوكرانيا التي استجدت أخيراً ولم يمض عليها شهر واحد، اذ استنفرت بعد بدء الحرب الحكومة اللبنانية لمواجهة تداعياتها على الأمن الغذائي من خلال وزارتي الإقتصاد والصناعة لتلبية حاجات السوق من المواد الأساسية. مثل الطحين والزيت والحبوب التي تستورد بغالبيتها من أوكرانيا…
وتداركاً لإفراغ السوق المحلية من تلك المواد، أصدر مجلس الوزراء قراراً بحصر السماح بتصدير المواد الغذائية المصنّعة في لبنان باجازة يمنحها وزير الصناعة. هذا الأمر حتماً أثار حفيظة الصناعيين الذين يعتبرون ان صادرات بعض المنتجات لا تؤثّر على السوق المحلية. ومن شأن هذا القرار الشامل أن يترك تداعيات سلبية ويحدّ من إدخال الـ”فريش دولار” من خلال الصناعيين اللبنانيين الى البلاد”.
إلا أنه سرعان ما أصدر وزير الصناعة قراراً بإعفاء بعض المنتجات من إجازة التصدير مثل المياه المعدنية، والمشروبات غير الكحولية، والكاكاو والشوكولا غير المغلف بالبسكويت، والبن والشاي وتحميص البن، والمشروبات الكحولية المقطرة انتاج < 10000 ليتر/ ع، والخمور انتاج < 10000 ليتر/ ع، من إجازة التصدير الصادرة عن وزير الصناعة، وغيرها من المنتجات.
بالنسبة الى الصناعيين، إن إدخال الـ”فريش دولار” الى الأسواق اللبنانية من شأنه ان يحافظ على استمرارية المؤسسات الصناعية التي تئن من الأكلاف المرتفعة التي تتكبدها لا سيما جراء أسعار الطاقة الملتهبة.
للموازاة بين “الأمنين الغذائي والإجتماعي”
ويعبّر رئيس جمعية الصناعيين فادي الجميّل لـ”نداء الوطن” عن تقديره لسعي وزير الصناعة الى المحافظة على الأمن الغذائي في ظلّ الأزمة جراء الحرب الروسية على أوكرانيا، وإحجام عدد من الدول المصدرة للمواد الأساسية عن التصدير لتحقيق كفاياتها الذاتية. هذا الأمر يستدعي حتماً إتخاذ تدابير في لبنان لحصر المواد في الداخل وعدم تصديرها الى الخارج، لكن في المقابل تأمين الأمن الإجتماعي من خلال المحافظة على الوظائف في القطاع الصناعي الذي يدخل “فريش دولار” الى البلاد هو ضرورة ملحة أيضاً”. ورأى أن “النقد الأجنبي يساعد في المحافظة على الأمن الغذائي ويساعد المؤسسات الصناعية على الإستمرار ودعم أكلافها في ما خص الأسواق المحلية لا سيما الزيوت والطحين. لذلك فمن الضروري أخذ ذلك في الإعتبار”.
وأكّد أن “وزير الصناعة متعاون ويسعى في هذا الظرف غير الإعتيادي، لبلورة كل الأطر المناسبة وليكون إجراء عدم تصدير الصناعات المحلية غير مربك للقطاع الصناعي، مع العلم أنه لدينا منتوجات مصنعة محلياً ولا تؤثر على الأمن الغذائي.
أما في ما يتعلق بتأثير أكلاف الطاقة لا سيما المازوت على الصناعات المحلية، اعتبر الجميّل أنها تؤدي الى زيادة الكلفة على المصنّع. مناشداً بالمناسبة “بإيجاد حل لأسعار الطاقة المكثّفة والتي تتطلب معالجة بالعمق لأن مصير العائلات المرتبطة بالصناعة في خطر”.
تداعيات الأزمتين المالية والنقدية
وحول تداعيات الأزمة المالية والنقدية التي نتخبّط بها الإيجابية على زيادة الإنتاج المحلي أوضح الجميّل انه، “لا يمكن في المحصّلة القول إن الأوضاع الإقتصادية حسّنت أو أفادت القطاع الصناعي”، ورأى “في هذا الأمر مبالغة نتيجة المشاكل التي يعاني منها القطاع”. لكن تردي الأوضاع في البلاد برهنت قدرات الصناعة المحلية وقربها من المستهلكين اللبنانيين الذين تعرّفوا على منتوجات الصناعة اللبنانية التي باتت تحظى بالقبول بنسبة أكبر، حتى أنها باتت خياراً إنتاجياً ضرورياً”. مذكراً أنه في “أزمة كورونا تمت تغطية حاجة السوق من المستلزمات الضرورية بسرعة فائقة، أكان لناحية الكمامات والألبسة وأجهزة التنفس الإصطناعي ما يمكن توظيفه بأي خطة للنهوض بالإقتصاد اللبناني”.
وأمل الجميل في أن “تنجز خطة النهوض والتعافي الشاملة، عندها يلعب الصناعي دوره اللافت الذي اكتشفه المسؤولون متأخّراً بعد اندلاع الأزمة”. معتبراً أنه “لدى المنتج اللبناني قدرات يجب أن توظف في خدمة الإقتصاد وخلق فرص عمل”.
قبل وخلال الأزمة
وبالنسبة الى وضع القطاع الصناعي قبيل بدء الأزمة المالية والنقدية اللبنانية في نهاية العام 2018 وخلالها لغاية العام 2021، بيّن تقرير “الصناعة اللبنانية: 2018-2021- وما بعد”، الصادر عن البنك الاوروبي للاستثمار والتنمية الذي أعده بمبادرة من جمعية الصناعيين اللبنانيين، أن “الصناعة تواجه اليوم صعوبات مضاعفة بسبب تجمع مشاكل داخلية عدة (الارتباك السياسي والامني، تدهور سعر الليرة…) مع مشاكل عالمية حادة (جائحة كورونا، وقف او عرقلة حركة الانتاج والتصدير…). لكن كل تلك المتاعب دفعت بقوة حركة حديثة في “اقتصاد المعرفة” الهامشي بنسبة كبيرة، والذي يساعد لأن توفّر نحو 1200 “مؤسسة” تنتج نحو 3 مليارات دولار دخلاً فائق الاهمية لوطن محاصر بكمّ هائل من المتاعب”.ومن إجمالي الناتج المحلي سجّلت الصناعة في العام 2018 نحو 17.1% و 22% في العام 2021 استناداً الى ارقام اكثر واقعية للقيم المضافة وللناتج القومي، حسب الاستقصاء الميداني لهذه الدراسة متضمناً النشاطات الموازية (غير “الرسمية”) والمبينة في الجدول. وتبين في تقرير البنك الاوروبي للاستثمار والتنمية أن الصناعة استفادت من تحسن ملفت في الطلب الداخلي نتيجة الإنخفاض الكبير في المستوردات ونمو الصناعة المحلية “الإستبدالية” للسلع الأجنبية. وتحسنت شروط التصدير ايضاً نتيجة التحسن الواضح في القدرة التنافسية بفعل تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية. واستفادت الصناعة، أيضاً ومجدداً، من خلفية نفسية واضحة تدعو إلى مواجهة الواقع المؤلم والإستمرار في النشاط على رغم الصعوبات، لكن مؤشراً سلبياً ظهر في المقابل وتمثل بهجرة بعض الصناعات إلى الخارج نتيجة الوضع الأمني، وكذلك نتيجة التسهيلات والتشجيع الرسمي في دول الاستقبال. الا ان ما يسجل ايضاً أن هذه الصناعات بقيت جذورها في لبنان ولم تقفل عموماً ما خلا مؤسسات صغيرة أقفلت بسبب عدم القدرة على تحمل تبعات الأزمات المتلاحقة.
بعض الارقام
تماسك الانتاج الصناعي نسبياً في العام 2019 رغم انطلاق موجة الاحتجاجات وقطع الطرقات قبل ان يتجه نزولاً في 2020 ويتراجع بوضوح في 2021. وسجلت الوتيرة الاعلى في التراجع في مصانع قطاع الغاز والطاقة (-67% بين 2018 و2021) في حين ان انتاج صناعة الجلديات نمت بقوة (+72.9%) كذلك بالنسبة لصناعة الادوية (+19%). اما صناعة المواد الغذائية فقد تراجعت بوضوح (-16%) بعدما كانت قد سجلت ارتفاعات عالية في 2020.
عدد المؤسسات يزيد
على رغم ضغوط عدة، وإقفال عدد كبير من المؤسسات التجارية أبوابها لفت تقرير البنك الاوروبي للاستثمار والتنمية الى «أن عدد المؤسسات الصناعية اللبنانية زاد بوضوح. وبحسب «دليل الصادرات والمؤسسات الصناعية ارتفع عدد المؤسسات الصناعية التي لديها 8 عمال من نحو 6208 مؤسسات في 2018 إلى 6684 في 2020، أي بزيادة واضحة بنسبة 7.6%. وتزيد هذه الأرقام بأكثر من 30% عن تلك المعروفة رسمياً لدى وزارة الصناعة لغير اعتبار أقله إن ثمة صناعات مرخصة بمراسيم وأخرى من البلديات… لكن كل هذه الأرقام تبقى دون الحقيقة بإعتبار أن ثمة مؤسسات كثيرة حرفية خصوصاً وغير نظامية عموماً لم تدرج في هذه الإحصاءات قد تزيد معها الأرقام المتداولة للمؤسسات بالمعنى الواسع للكلمة بنسبة نحو 40%». في غضون ذلك اقفلت مؤسسات تجارية وخدماتية عدة ابوابها. ويقدّر التقرير ان تكون نسبة المؤسسات المقفلة في السنوات الثلاث الاخيرة نحو10-15% من المجموع العام للمؤسسات، وظهرت مؤشرات عدة الى ذلك منها تراجع عدد المنتسبين الى غرفة التجارة والصناعة في بيروت من 15149 منتسباً في 2015 الى 13576 في نهاية 2019 (-10.4%). وفي مقابل تراجع الحركة التجارية استمر تحسّن الاستثمار الصناعي على رغم اقفال عدد من المؤسسات لا سيما الصغيرة منها، ويتبين التحسن من زيادة الاستثمارات الصناعية وارتفاع عدد المؤسسات. ويتأكد هذا الاتجاه ايضاً عبر التراخيص الجديدة الصادرة عن وزارة الصناعة.