حرب بوتين ضربة قاضية لمنع الانتشار النووي
النشرة الدولية –
Foreign Affairs
كان تخريب “معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية” من أخطر تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا وأوسعها نطاقاً، إذ يمكن اعتبار هذه المعاهدة أهم اتفاقية متعددة الأطراف لضمان صمود البشرية. منذ الهجوم الروسي الأول ضد أوكرانيا في العام 2014، غيّرت التحركات الروسية المنطق الكامن وراء المعاهدة التي تمنع تصنيع الأسلحة الذرية.
وبما أن أوكرانيا كانت تملك أسلحة نووية سابقاً لكنها تخلّت عنها حين انضمّت إلى “معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية” في العام 1994، يوحي الاعتداء الروسي المتجدّد بأن هذه المعاهدة تهدف فعلياً إلى تجريد الدول الضعيفة من دفاعاتها وجعلها فريسة للبلدان المسلّحة نووياً. عبّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن هذا الموقف في بداية الحرب حين أعلن أنه وضع قوات بلده النووية في حالة تأهب وأطلق تهديدات خطيرة ضد كل من يجرؤ على الوقوف في طريق روسيا.
في بداية التسعينات، امتلكت أوكرانيا لفترة وجيزة بعد نيلها استقلالها رؤوساً حربية نووية تفوق ترسانة بريطانيا وفرنسا والصين مُجتمعةً. وَرِثت أوكرانيا من الاتحاد السوفياتي حوالى 1900 سلاح استراتيجي و2500 سلاح نووي تكتيكي على أراضيها. لكن بعد كارثة تشرنوبيل النووية في العام 1986 وتماشياً مع التفاؤل الجيوسياسي الذي ساد في السنوات الأولى بعد الحرب الباردة، قررت أوكرانيا أن تخلو من الأسلحة النووية بالكامل.
كانت أوكرانيا تعجز طبعاً عن استعمال معظم أسلحتها النووية في تلك الفترة لأن مراكز القيادة بقيت في موسكو. لكنها لم تكتفِ بتجميع الرؤوس الحربية بل جمعت أيضاً تقنيات متخصصة وخبرات هندسية كان يسهل استعمالها لجعل الدولة مسلّحة نووياً من خلال الاحتفاظ باحتياطي من اليورانيوم المُخصّب أو البلوتونيوم أو حتى الذخائر النووية والرؤوس الحربية. تعرّضت كييف لضغوط قوية من موسكو لكنها تلقّت في الوقت نفسه مساعدات سخية من واشنطن، فنقلت ترسانتها كلها إلى روسيا سريعاً. ثم وقّعت أوكرانيا على “معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية” ووافقت عليها باعتبارها دولة غير نووية.
مقابل نزع الأسلحة النووية بالكامل، وافقت واشنطن وموسكو ولندن على منح كييف تعهدات أمنية إضافية. خلال قمة مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا في العام 1994 (قبل ظهور منظمة الأمن والتعاون في أوروبا اليوم)، وقّعت تلك الدول الأربع على “مذكرة بودابست” التي أصبحت معروفة راهناً، وقد سُمّيت تيمناً بالمدينة التي حصلت فيها القمة. في هذه الوثيقة، حرصت القوى الثلاث الضامنة لنظام منع الانتشار النووي (الولايات المتحدة، وبريطانيا، وروسيا بصفتها الخَلَف القانوني للاتحاد السوفياتي) على طمأنة أوكرانيا حول سيادتها وأمن أراضيها وتحررها من الضغوط الاقتصادية والسياسية.
ثم قامت الصين وفرنسا بالمثل باعتبارهما الدولتَين الرسميتَين الأخريَين في “معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية”. أدلى البلدان بتصريحات حكومية منفصلة للتعبير عن احترامهما لدولة أوكرانيا وحدودها. وصدرت تعهدات خطية مشابهة لصالح بيلاروسيا وكازاخستان اللتين وَرِثتا أيضاً أجزاء من الترسانة النووية السوفياتية. وافق هذان البلدان بدورهما على نقل رؤوسهما الحربية إلى روسيا.
وُضِعت اللمسات الأخيرة على “معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية” في العام 1968 (وقّع عليها 191 بلداً، أي أكثر من أي اتفاق آخر للحد من الأسلحة)، ثم أصبحت سارية المفعول في العام 1970. كانت المعاهدة تهدف إلى كبح انتشار الأسلحة النووية، وتعزيز التعاون في مجال الاستعمالات السلمية للطاقة النووية، والعمل على نزع الأسلحة النووية بالكامل. ثم جرى تمديد المعاهدة إلى أجل غير مسمّى في العام 1995 تزامناً مع نجاح تجارب أوكرانيا وبيلاروسيا وكازاخستان في مجال نزع السلاح النووي.
تُعتبر “معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية” حجر أساس لنظام منع الانتشار النووي حول العالم، فهي تشمل البند الوحيد الذي يُلزِم جميع الأطراف بنزع الأسلحة النووية في الدول. تعترف هذه الاتفاقية صراحةً بأن منع الانتشار النووي لا يمكن تحقيقه عبر الدول الفردية بل إنه يتطلب أعلى درجات التفاني والتعاون من المجتمع الدولي.
كذلك، تطالب هذه المعاهدة الدول المسلحة نووياً بالامتناع عن نقل الأسلحة النووية إلى دول أخرى، وتطلب من الدول غير النووية أن تمتنع عن تلقيها أو تصنيعها أو شرائها. كما أنها تشمل وعداً من الدول النووية بالمشاركة في تطوير استعمالات الطاقة النووية لأغراض مدنية في جميع الدول الموقّعة على المعاهدة. تذكر هذه الاتفاقية في مقدمتها أيضاً ضرورة أن يمتنع أي بلد عن استخدام القوة أو التهديد باستعمالها بما ينتهك سيادة الدول أو استقلالها السياسي، تماشياً مع ميثاق الأمم المتحدة.
حتى الآن، امتنعت معظم الدول عن اكتساب أي أسلحة ذرية بفضل نظام منع الانتشار النووي. خارج إطار “معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية”، وحدها الهند وإسرائيل وكوريا الشمالية وباكستان أقدمت على تطوير قدرات نووية خاصة بها. لكن تبقى ترساناتها أصغر من الأسلحة التي تملكها الدول النووية الخمس الرسمية في المعاهدة، أي بريطانيا، والصين، وفرنسا، وروسيا، والولايات المتحدة، وهي دول دائمة العضوية في مجلس الأمن أيضاً. بعد أكثر من نصف قرن على توقيع المعاهدة، لا تزال الاتفاقية على حالها بشكل عام. من المقرر أن يُعقَد مؤتمر مراجعتها العاشر في وقتٍ لاحق من هذه السنة بعد تأجيله مراراً بسبب جائحة كورونا.
غداة الاعتداءات الروسية العسكرية وغير العسكرية ضد أوكرانيا منذ العام 2014 ثم ضم الأراضي الأوكرانية أو الاستيلاء عليها والغزو الروسي المتواصل اليوم، يبدو أن الكرملين مُصِرّ على تغيير ركائز نظام منع الانتشار النووي. بعد تلاشي أهمية الضمانات الأمنية التي تمنحها الدول النووية لأوكرانيا، يبدو وكأن الهدف من “معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية” بات يتعلق اليوم بمنح الدول النووية الخمس الرسمية فرصة توسيع أراضيها بكلفة متدنية نسبياً. قد يحصل ذلك على حساب الدول الأصغر حجماً التي تكون ساذجة بما يكفي لتصديق سيادة القانون الدولي الذي يربط المعاهدة بالدول غير المسلحة نووياً.
يُهدد السلوك الروسي تجاه أوكرانيا منذ العام 2014 مصداقية “معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية” التي تشكّل ركيزة النظام العالمي ويُضعِف أمن 191 دولة مُوقّعة على المعاهدة، بما في ذلك روسيا بحد ذاتها. من خلال انتهاك بنود المعاهدة بهذا الشكل الفاضح، أضعفت روسيا مصداقية منع الانتشار النووي، وخففت رغبة الدول الفردية في المشاركة في هذه المساعي، وزادت نزعة دول أخرى وأطراف غير حكومية إلى تصنيع الأسلحة النووية واستعمالها. بعبارة أخرى، يؤدي هجوم روسيا وإمعانها في تفكيك أوكرانيا إلى زعزعة أمن جميع الأطراف.
ما هي الحوافز التي ينتجها تجدّد الهجوم الروسي ضد أوكرانيا على المدى الطويل إذاً؟
نجحت روسيا في مهاجمة أوكرانيا لأنها دولة مسلّحة نووياً. تفتقر أوكرانيا من جهتها إلى هذا النوع من الأسلحة لردع الهجوم، وتمنعها “معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية” من اكتسابها أيضاً. لو كانت أوكرانيا دولة نووية، كان بوتين وقادته العسكريون ليفكروا ملياً قبل إطلاق هذا الغزو.
تستطيع القوى المتوسطة، التي لا تحظى بحماية تحالفات أكبر حجماً مثل الناتو، أن تستخلص ثلاثة دروس بسيطة. أولاً، من الإيجابي أن يملك البلد أسلحة نووية لفرض خططه على بلد آخر أو لردع هذا النوع من الاعتداءات. ثانياً، لا نفع من التخلي عن أسلحة البلد. ثالثاً، من غير المنطقي أن يتكل أحد على المعاهدات والمذكرات والضمانات وأي بيانات أخرى، حتى لو كانت سارية المفعول ومُلزِمة قانوناً ومدعومة من حكومات أقوى دول العالم.
قد تستنتج دول كثيرة أنها تحتاج إلى سياسة حكيمة أكثر من مقاربة كييف حين قررت التخلي عن رؤوسها الحربية ومعداتها النووية. حتى أن فرصة البلد للحفاظ على سيادته وحماية أراضيه تزيد عند حصوله على رؤوس حربية نووية أو احتفاظه بها. لا يسهل إطلاق برنامج نووي جديد اليوم، لكن حين تُسهّل أي تكنولوجيا جديدة وتخريبية تطوير الأسلحة النووية أو شرائها، قد ترغب دول كثيرة في الحصول عليها، لا سيما إذا كانت البلدان المجاورة لها جشعة وتملك هذا النوع من الأسلحة أو ترغب في تصنيع عدد منها.
أما الدول المجاورة الجشعة، فيسهل أن تستنتج أنها تستطيع الاستيلاء على جزء من أراضي بلد آخر إذا كان يفتقر إلى أسلحة فتّاكة بما يكفي ويثق بالقانون الدولي بكل سذاجة. استناداً إلى قواعد بوتين، قد تضمن التهديدات الحاسمة باستعمال الرؤوس الحربية النووية ألا تهبّ أي قوة خارجية لمساعدة دولة مجاورة غير نووية حين تتعرض للهجوم. لقد أثبتت روسيا أن المعتدي الذي يملك أسلحة نووية يبقى بأمان. وحتى لو لم يحصل غزو شامل، يثبت السلوك الروسي في جورجيا وأماكن أخرى مجدداً أن موسكو تستطيع التحرك بلا حسيب أو رقيب، وأن أسوأ ردة فعل قد تبديها القوى الخارجية تقتصر على تسليم كميات ضئيلة من الأسلحة وفرض عقوبات اقتصادية، وغالباً ما تكون هذه العقوبات ضعيفة ثم تتلاشى مع مرور الوقت.
هل من حاجة إلى تطورات أخرى كي تعتبر الدول القنبلة النووية حلاً جاذباً؟