شرق أوسط آخر
بقلم: مصطفى أبو لبدة

إرم نيوز –

خمس مرات على الأقل، تغير أو تعدل فيها اسم أو توصيف ”الشرق الأوسط“، خلال القرنين الماضيين، كان آخرها يوم الأحد الماضي.

أين يوجد في العالم منطقة أخرى حظيت بمثل هذه القابلية أو الشهوة لإعادة التشكيل، دون أن يأخذ التغيير مداه أو يُفهم على حقيقته؟

هل لأن الشرق الأوسط بؤرة الانتصاف التي تتوسط العالم، كما كان يصفها زبغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق، وبهذه الخصوصية تجد في القوى الإقليمية والدولية مَن يرى بنفسه الأهلية ليرثها في السيطرة والقيادة، أم لأن تركيبة هذه المنطقة فيها الذي كان شخّصه المؤرخ البريطاني الأكثر تخصصاً بالشرق الأوسط، برنارد لويس، بأنه اختلال مزمن لا يُعرف إن كان سببه أهل الإقليم واستعصاءهم على المواكبة، أم أن السبب هو قوى الهيمنة الأجنبية التي تناوبت على المنطقة؟

أياً كان السبب، فإنه لا يغير من حقيقة أن المنطقة التي تغيرت أسماؤها وأوصافها مراراً لأسباب خارجة عن إرادتها، تقف الآن على عتبة منعطف جهّزت له كفاية قبل أن تمنحها حرب أوكرانيا واختلالات أسواق الطاقة فرصة المباشرة من موقع المبادرة.

آخر اجتهاد لتعديل مسمى أو توصيف الشرق الأوسط هو الذي أُطلق في إسرائيل على ”منتدى النقب“، الذي انعقد قبل أربعة أيام ووُصف بأنه حدث تاريخي يستهل ”الشرق الأوسط الآخر“.

تعبير ”الشرق الأوسط الآخر“ بمقتضاه اللغوي يعني أن الشرق الأوسط الراهن استهلك نفسه ووصل نهاية الخط، فاقتضى ممن يرون في أنفسهم الأهلية أن يتقدموا لقيادته.

كانت الإشارة مفهومة ضمنا بأن ”الشرق الأوسط الآخر“ هو الذي يُراد فيه لأهل المنطقة أن يملأوا الفراغ الذي سيتركه النكوص الأمريكي وغياب الالتزام من جانب إدارة الرئيس جو بايدن بأمن المنطقة، وبالذات فيما يتصل باحتواء أو كبح إيران.

 

كان طبيعياً أن يثير هذا التوصيف لـ“الشرق الأوسط الآخر“، حفيظة الكثيرين داخل المنطقة، وبما استدعى تناوب الحضور في التلطيف بدعوى التوضيح.. هو أمر مفهوم لم يغير كثيراً من حقيقة أن المؤتمر الذي شارك فيه أربعة وزراء خارجية عرب إلى جانب نظرائهم من إسرائيل والولايات المتحدة، هو تغيير نوعي له من ينتظره كما له مَن يعترض عليه ليجعل منه بداية حرب باردة.

قبل 18 عاماً وفي مثل هذه الأيام، كانت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش نحتت مصطلحاً جديداً على المنطقة التي خاضت فيها حربي العراق وأفغانستان، وأسمته ”الشرق الأوسط الكبير“.. جاءت التسمية عنواناً لمشروع وصفته واشنطن بأنه إصلاحي شامل قدمته لمجموعة الدول الصناعية الثماني، لكنه لم يلبث طويلاً قبل أن يتخلى عنه أهله.

وقبل ذلك بحوالي عشر سنوات، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي شمعون بيريس استهواه تعبير ”الشرق الأوسط الجديد“ عنواناً مستهدفاً للمنطقة، بعد أن أحرزت تل أبيب اعترافاً ومعاهدات أو اتفاقات بدأتها مصر وتبعتها فيها منظمة التحرير الفلسطينية والأردن، لكن الجدية في الذهاب بعيداً مع نصوص الاتفاقات كانت جدية منقوصة.

جميعها، ”الشرق الأوسط الجديد، والكبير، والآخر“، كانت إشارات تنبيه لتغيير يحصل على الأرض في معادلة القوة والطموح التي تنخرط فيها الأطراف المتنافسة في السيطرة على الإقليم وقيادته، لكنها مصطلحات لم تغير كثيراً في الأصل التاريخي الذي كان أعطى لهذه المنطقة اسمها من زاوية المصالح الأوروبية أو القرب الجغرافي من تلك القارة.

في نهايات القرن الثامن عشر، وهي التي شهدت توقيع اتفاقية إنهاء الحرب بين الامبراطوريتين العثمانية والروسية، ثم غزوة نابليون لمصر وبلاد الشام، قاموا في الغرب بتقسيم الشرق إلى ثلاثة أقاليم: الشرق الأدنى والأوسط والأقصى، وأخذت هذه المنطقة اسمها كما فصّلوه لها ولم يعترض أحد.

وفي الحرب العالمية الثانية، استخدمت القوات البريطانية تعبير الشرق الأوسط ليشمل أيضاً الشرق الأدنى، وظلت التسمية معتمدة ومتداولة، وإن لقيت في العقود الثلاثة الماضية مَن يستخدمها بالتناوب مع تعبير ”مينا“ أو الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

لافتة هذه السيولة في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط، واستعداد الناس لقبول إعادة تسميته او توصيفه، فضلاً عن تغيير حدوده.

تغيير الأسماء أو تعديلها ليس هيّناً.. ففي بعض بلاد الشام قوانين ترفض مثل هذا التغيير على الأسماء إلا بسبب الشراكة المدنية والزواج، أو لتجنب الملاحقة والتحرش، أو لاستبدال اسم سخيف غير مرغوب فيه.

بعضٌ من هذه الدواعي الموجبة لتغيير الاسم أضحى مستحقاً على منطقة ”الشرق الأوسط“ التي تبدو هذه المرة خرقت المألوف في تركيب منظومة إقليمية تملأ فيها فراغ الانسحاب الأمريكي، وتتحوّط لتهاون واشنطن مع طهران تهاوناً يشبه التواطؤ.

زر الذهاب إلى الأعلى