التاجر وسط دخان حرائق الآبار
بقلم: أحمد الصراف
النشرة الدولية –
عندما تحرّرت الكويت من حكم صدام في 26/2/1991 منعت الحكومة المواطنين، الذين أصبح ثلثاهم تقريباً خارجها، من العودة بسبب المخاطر الأمنية ونقص الخدمات، وسمحت لمن لديهم سلع إستراتيجية بالدخول.
كنت أشعر، لأسباب عدة، بضرورة العودة، وترتيب وضع أعمالي، فقمت بمخاطرة أمنية ومالية كبيرة تمثلت في شراء كمية ضخمة من بطاريات ودواليب السيارات، وشحنها للكويت مع سائق تريلا لا أعرفه، وكان ذلك في مارس 1991. واتفقنا على اللقاء بعد يومين في مقهى معروف في منطقة الخفجي السعودية الحدودية، لمرافقته عند دخول الكويت المحررة!
استقللت الطائرة إلى البحرين، بعد مغادرة الشاحنة بيوم، حيث سبق أن تركت هاتفي النقال في مطارها، بعد أن صادرته مني سلطات الأمن، عندما دخلتها في أيام الاحتلال، ومن هناك استأجرت سيارة نقلتني إلى السعودية، وفيها التقيت بصديق تطوّع لتوصيلي إلى مركز الحدود ومنها إلى الكويت!
توقفنا في الخفجي للحصول على تصريح المغادرة من أمير المنطقة، وعندما خرجت لم أجد «الصديق» الذي «كشت فيني»، وهو يعرف نفسه!
لم أجد بدّاً من مشاركة سائق الشاحنة مقصورة الخمس نجوم للعودة إلى الكويت، وكانت رحلة محفوفة بالمخاطر في سيارة شحن ضخمة، حيث كان الطريق ممتلئاً بالحفر والخنادق، ودخان حرائق آبار النفط يملأ الأجواء، والظلام دامساً، والبرودة قارسة في الخارج، ورائحة العرق والتبغ الرخيص تملأ فضاء المقصورة الضيق، مع الاضطرار إلى سماع أسوأ الأغاني من راديو الشاحنة التي أصّر السائق على سماعها كي لا يغفو.
استغرقت الرحلة من الخفجي حتى سرداب بيتي في الجابرية قرابة الست ساعات، مع العلم بأن نقاط الحدود كانت مهجورة ومحترقة وخالية تماماً، وكانت شاحنتنا، وبضع سيارات فقط على ذلك الطريق المقفر في ساعات الصباح الأولى، في منطقة ليس لأحد نفوذ ولا سيطرة عليها، غفوت لبرهة، ولم أشعر بعدها إلا وأنا أُحدف بقوة قاهرة من الشاحنة، بعد أن انفتح بابها نتيجة سقوط عجلتها الأمامية من جهتي في حفرة كبيرة، ويبدو أنني كنت ممسكاً بشنطة اليد عند سقوطي فتبعثر ما كان بها من أوراق نقدية ورسمية وجواز السفر وتصريح الدخول، ولعنت ابن الحرام صدام على ما فعله بنا وبشعبه.
وصلت البيت، والمطر الأسود، الملوث بالأدخنة السوداء الناتجة عن جريمة حرق آبار النفط يغطي كل شيء، ويحيل ساعات الصباح إلى ظلام خانق ودامس. كانت ليلة غريبة، أتذكر كل تفاصيلها حتى الآن، وتبيّن لي حينها حجم المخاطرة التي قمت بها، معرضاً نفسي للسرقة ولضياع البضاعة، وهروب السائق بها أو حتى عدم وصوله إلى المكان الذي اتفقنا على الالتقاء فيه، وربما الموت في ظروف غامضة، فلا أحد كان يعلم بمكان وجودي وماذا كنت أفعل، وسيفاجأ حتى أهلي بقراءة هذه الاعترافات بعد 32 عاماً من وقوعها.
لم أكن بالطبع أحمل أي سلاح، أو أية وسيلة أو طريقة للاتصال بأحبتي وتطمينهم علىحالي، وكل ذلك لأنني أصررت على أن أكون تاجراً!
تخلّصت من حمولة الشاحنة بربح مجزٍ خلال أيام قليلة، فقد كانت الأسواق بحاجة كبيرة إلى البطاريات والعجلات، التي أفرغ العراقيون، مدنيين وعسكريين، السوق منها. حرصت بعدها مباشرة على الحصول على موافقات وزير الداخلية شخصياً، الشيخ أحمد الحمود، على طلبات عودة بعض الموظفين التابعين لي من الخارج، بعد أن تزايدت الحاجة إلى مختلف الأيدي والعقول العاملة، وحصل ذلك في وقت قياسي، ودارت عجلة العمل، ولولا تلك العودة «المباركة»، بكل مخاطرها، لما حققت تالياً أي إنجاز.
هذه هي التجارة، مخاطرة بالوقت وأحياناً حتى بالروح، ودائماً بالمال، وليست رحلة كروز سياحية على ظهر باخرة فخمة!
***
أكتب هذه الذكريات للتاريخ ولأبنائي لكي يعرفوا أن ما لديهم لم يأتِ سهلاً، والصعوبة كانت في الإصرار «دائماً» على الالتزام بكل المعايير الأخلاقية في العمل.