هل مجتمعاتنا هشة إلى ذلك الحد؟
النشرة الدولية –
لا يمكن ولا تجوز مصادرة رأي شخص في موضوع مختلف عليه، فكل منا له رأي في الأحداث المحيطة. الاعتراض على أن يفرض أي شخص أو أشخاص رأيهم، تحت غطاء ديني أو وطني أو قيمي لتسود وجهة نظره على الجميع، ويحمل مسطرة للسلوك ويجب على الجميع اتباعها. في الذهن الهجوم الكاسح من سياسيين على مسلسلات تلفزيونية والمطالبة بـ(قطع الرؤوس)!
أثير ذلك في بلد مثل الكويت وأيضاً المغرب وتونس والجزائر لتسمية البعض، وهي ظاهرة ترفض معالجة عطب الواقع لتتخيل أنها في مجتمع (ملائكة)! الأول كان مسلسل (من الهرم إلى…) والثاني (فتح الأندلس) والثالث (براءة) والرابع (حب الملوك) لتسمية البعض، واللافت أن الحملة يشارك فيها من يقولون عن أنفسهم إنهم (ديمقراطيون) بالمهنة، وهي مهنة تتطلب لمن يدعيها أن يقبل (الرأي الآخر)، وذلك ينفي أبجديات الديمقراطية بمعناها الحقيقي التي يطمح للوصول إليها، كما أن هذه المواقف تنفي القدرة الإنسانية على أن توفر أسباب التقدم لمجتمعاتها من خلال النقاش الحر. إنه عمل فني من حقك أن تشاهده أو لا تشاهده، أما أن تنصِّب نفسك حارساً للفضيلة، فذاك نوع من الإرهاب!
في القاع تسود أزمة فكر متجذرة، وهي الأحادية والانطباعية في التفكير ناتجة عن النقل والاتباع وليس التحليل والتأسيس المنطقي! قادمة من تثقيف طويل المدى ومبني على مرجعية إما دينية (كما يفهمها البعض) أو انغلاقية ناتجة عن التزمُّت.
فكرة الحرية في الفكر العربي ضيقة إلى حد كبير، وقد يأخذ البعض اعتقاده فرضاً من أجل إخضاع الآخرين حتى باستخدام القهر أو القوة، كما ظهر في تنظيمي «القاعدة» و«داعش» أو الحكم العسكري أو الحزبي الشمولي في الكثير من التجارب العربية الحديثة.
لقد بُني بعض الفكر السياسي العربي على قصائد نزار قباني ومظفر النواب وآخرين من أمثالهما من جهة، وهو فكر كاره للواقع من دون تحديد بديل، أو بُني على فكر شمولي قادم من تجارب قومية شيفونية، أو فتاوى جاهلة (قطبية) من جانب آخر، وأسهمت وسائل الاتصال الحديثة في تغييب الوعي أكثر لأن صانعي ذلك المحتوى أنفسهم مغيبون في فهم سطحي للدين أو للمواطنة… إنتاج بدائل لذلك الوعي بجانب أنها صعبة يحتاج إلى عقول وتصميم.
الذاكرة الجماعية العربية معبأة عن طريق سنوات التعليم بأفكار إما مثالية ليست لها علاقة بالواقع، يضاف إليها برامج إعلامية تؤكد تلك الذاكرة الخرافية وتمنح للأولين (أعمالاً خارقة) وللأخيرين (سلوكيات خاطئة) فالتبس الأمر على الجمهور.
تحت يدي أمثلة من واقعنا الذي نعيشه، وهي أمثلة فقط من بين عشرات. رجل (يبدو أنه رجل دين) في مظهره، وهي (صفة) آن الوقت لنقاشها بجدية، يقول مخاطباً جمهوره: «إن السيد رجب طيب إردوغان رجل صالح»، وذلك من حق المتكلم وهذا رأيه لا نجادل فيه، ثم يردف أن صلاحه ظاهر في أنه «يقبل قدم والدته يومياً قبل الذهاب إلى مكتبه»! ولما أصبح رئيس جمهورية قالت الوالدة: «لا يصح أن تقبل قدمي وأنت رئيس»! رد عليها: «وهل تمنعينني الجنة؟»! انتهى الاقتباس، ثم يهلل المستمعون! هنا ترويج سياسي فاسد وتغييب حقيقي للعقل من زاويتين؛ الأولى أن (رجل الدين) فهم فهماً حرفياً وسطحياً أن (الجنة تحت أقدام الأمهات) والمقصود عقلاً هو الاهتمام والعناية بالوالدين، لأن الطبيعة الإنسانية مجبولة على الأنانية ومنها إهمال الوالدين في كبرهما، والعناية هنا أمر محمود، حوَّره القائل (ربما لنقص في فهمه للمقاصد) إلى عمل مباشر. من ناحية أخرى فإن والدة الرجل توفيت قبل أن يصبح رئيساً! هذا الخلط بين (ما يعتبره البعص فكراً دينياً) وبين (الترويج السياسي) قائم منذ زمن، وإن كنا نتفهم تقصير الأولين فإن تقصير المعاصرين مع تقدُّم البشرية الهائل في التفكير وتوفر المعلومات ينتج وعياً مغلوطاً يُسوّق إلى العامة فيصدق!!
في مثال آخر (العاصوف)، وهو نقد المرحلة الصعبة، ويشن البعض حملة شعواء على المسلسل لأنه يدعو إلى الإصلاح الذي يحدث اليوم في المملكة العربية السعودية، ويتردد البعض في الدفاع عن برنامج الإصلاح تهيباً من اتهامات ظالمة من ذلك التيار الشمولي… جل حملات النقد تلك أنها مسيسة ولها أجندة ظلامية أو كارهة لمسايرة الأمم أو رافضة أي مصالحة مع العصر، في حين أن الحركة الإصلاحية في المملكة هي عملية مستحقة للشعب السعودي وحتى لجيرانه، وطبيعة الأمر أن تكون هناك مقاومة بشكل ما لأي برامج إصلاح، أما غير الطبيعي فهو أن يسكت أصحاب المصلحة الحقيقية عن الدفاع عن تلك البرامج أو التسامح مع شيطنتها تحت ذرائع مختلفة خشية الإرهاب الفكري!
في مصر الجدل حول (الاختيار 3)، والحقيقة الواضحة أن الجيش المصري قد أنقذ المجتمع من براثن التدهور والوقوع تحت سيطرة فكر سياسي ماضوي يريد أن يعود بمصر إلى القرون الوسطى، لذلك نجد حملة من التشويه، مستغلة بعض المثالب، لصناعة رأي عام كاره للتطور الحادث في مصر، من جديد في تخليق فكر اجتماعي متوتر تحت عباءات ملتبسة يحمل ما يمكن أن يعرف بالإرهاب الفكري لصالح جماعات ظلامية.
تلك أمثلة وتاريخ البشرية يقول لا يتطور المجتمع إلى الأفضل إلا بترك مساحة للآخر ليعبر عن رأيه بشكل سلمي منطقي وعقلاني، وهذا لا يعني أنك لا تجهر بوجهة نظرك في المقابل، أما أن تفرض رأياً يتوجب سلوكه بالاستعانة أو تحت غطاء سلطة (دينية) أو (سياسية) أو (قومية) لقمع الرأي الآخر هو الانزلاق إلى الجمود.
المعركة الحقيقية في فضائنا العربي اليوم هي معركة ثقافية بامتياز، فقد أهملت الثقافة الجادة والمستنيرة وتراكم عليها العبث، تارة من منظور يخال للبعض أنه (ديني) وأخرى من منظور يخاله البعض أنه (وطني)… وفي الحقيقة كلها سياسي يتوخى إخضاع المجتمع لمسطرة واحدة يراها (الصحيحة) من أجل إبقاء المجتمعات العربية في الظلام، لأن الظلام تأنس له الخفافيش!
آخر الكلام:
المجادلة الصاخبة حول افتراض أن مسلسل يغير المجتمع، هي مجادلة تفترض الهشاشة في المجتمع وتغيب العقل!