ما هي “جرائم الحرب” ومن يحددها؟
زيلينسكي صنف الضربات الروسية ضد مناطق مدنية أوكرانية كذلك، لكن روسيا ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية
النشرة الدولية –
اندبندنت عربية – سوسن مهنا –
عاد تعبير “جرائم حرب” إلى التداول، منذ إعلان مفوضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ميشيل باشليه في 30 مارس (آذار) الماضي، أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف، أن الهجمات الروسية واسعة النطاق والعشوائية تثير “قلقاً كبيراً”، وأضافت أنها يمكن أن ترقى إلى “جرائم حرب”. وكان المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية كريم خان صرح أنه فتح تحقيقاً بشأن الوضع في أوكرانيا للتحقق مما إذا كانت هناك جرائم حرب قد ارتُكبت في هذا البلد، مؤكداً “البدء بجمع الأدلة”، وذلك بعد حصوله على دعم 39 دولة من الدول الأطراف في المحكمة، من أصل 123 دولة. وسينظر المحققون في الادعاءات الحالية والسابقة – منذ عام 2013، قبل ضم روسيا شبه جزيرة القرم من أوكرانيا. وإذا كان هناك دليل، سيطلب المدعي العام من قضاة المحكمة الجنائية الدولية إصدار أوامر اعتقال لتقديم الأفراد إلى المحاكمة في لاهاي. لكن روسيا ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية، بعد انسحابها منها في عام 2016، إذاً قد لا يسلم الرئيس فلاديمير بوتين أي مشتبه فيه.
يتبادر إلى الذهن سؤال “طبيعي” عند سماع مصطلح “جرائم حرب”، وهو: هل الحرب تنطوي إلا على شيء غير جرائم، لكن للحروب قواعد حددتها الجهات الدولية المختصة.
ما “جرائم الحرب”؟
جرائم الحرب هي تلك الانتهاكات لقوانين الحرب أو القانون الدولي، التي تعرض شخصاً للمسؤولية الجنائية الفردية. ويعود فرض قيود على التصرف في نزاع مسلح إلى المحارب الصيني صن تسو (القرن السادس قبل الميلاد)، وكان الإغريق القدماء من بين أول الذين اعتبروا تلك القيود والمحظورات قانوناً. وتُعتبَر محاكمة بيتر فون هاغنباخ، الذي حوكم في عام 1474 في النمسا ونال حكم الإعدام لقيامه بأعمال وحشية في وقت الحرب، أول محاكمة حقيقية على جرائم الحرب. وعرف ميثاق محكمة نورمبرغ العسكرية الدولية لعام 1945، جرائم الحرب بأنها “انتهاكات قوانين الحرب وأعرافها، بما في ذلك قتل مدنيين في أرض محتلة أو إساءة معاملتهم أو إبعادهم، وقتل أسرى حرب أو إساءة معاملتهم، وقتل رهائن، وسلب ملكية خاصة، والتدمير غير الضروري عسكرياً. ولم يتبنَّ المجتمع الدولي فكرة المعاقبة على جرائم الحرب بسهولة، وإنما مرت هذه الفكرة بمراحل عدة، من معاهدة فرساي 1919، واتفاق لندن 1945، واتفاقات جنيف 1949. وكان المجتمع الدولي وبعد الحرب العالمية الأولى اعتبر انتهاكات معينة قوانين الحرب جرائم، وأدخل تعديلات على اتفاقات لاهاي لعام 1899 وعام 1907.
ويعتبر المحاضر في جامعتي “كامبردج” و”هارفرد”، الكاتب والباحث “همفري تونكين”، أنه “أصبحت جرائم الحرب، في وقتنا تستلزم ملاحقة فاعليها والحكم عليهم بأشد العقوبات، عندما يطلق على حرب عدوانية تستهدف انتهاك الأعراف الدولية، صفة الجريمة، فهذا يعني بالنسبة إلى الدولة، أنها ارتكبت جنحة ذات طابع خطر للغاية، أما الأشخاص الطبيعيون الذين نفذوا هذه الأفعال، فيُطبَّق عليهم القانون الدولي الحديث، مبدأ الجريمة الدولية وما يسفر عنه من تحميلهم المسؤولية الجنائية.
أنواع جرائم الحرب
وبحسب المعاهدات الدولية التي نظمت قوانين الحروب، هناك أنواع للجرائم:
ـ تعذيب الأسرى أو إساءة معاملتهم أو إعدامهم. الجرائم الموجهة ضد المدنيين كاغتصاب النساء والتعدي على الممتلكات الشخصية. التشغيل والتهجير القسري، والتعذيب والإبادة الجماعية.
ـ جرائم ضد السلام: وهي كل عمل يتضمن التخطيط والتجهيز والإعداد لشن حرب عدوانية، أو البدء بمثل هذه الحرب، أو أي حرب، ومنها خرق المعاهدات والاتفاقات الدولية أو التعهدات المعطاة، أو المشاركة في خطة أو مؤامرة تهدف إلى اقتراف مثل هذه الأعمال.
ـ جرائم ضد الإنسانية: تشمل جرائم القتل والإبادة والتعذيب والتهجير والإبعاد والاستبعاد والإرهاب والاعتقال غير الشرعي والاضطهاد، لأسباب سياسية أو دينية أو عرقية، سواء كانت فردية أو جماعية، ويلحق بهذه الأعمال، تلك الشبيهة بها التي تُقترَف ضد المدنيين في المناطق المحتلة.
وتبنت هيئة الأمم المتحدة بموجب قرار صادر عن جمعيتها العامة في يناير (كانون الثاني) 1946، مبادئ محكمة نورمبرغ الستة:
– كل شخص يرتكب أو يشترك في ارتكاب فعل، يُعد جريمة طبقاً للقانون الدولي، يكون مسؤولاً عنه ويستحق العقاب.
– إذا كان القانون الوطني لا يعاقب على عمل يشكل جريمة حرب، فإن هذا لا يعفي مَن ارتكبه من المسؤولية بحسب أحكام القانون الدولي.
– إذا تصرف الشخص الذي ارتكب الجريمة بوصفه رئيساً للدولة أو مسؤولاً فيها، فإن هذا لا يعفيه من المسؤولية طبقاً للقانون الدولي.
– إذا تصرف الفاعل بأمر من حكومته، أو من رئيسه الأعلى، فإن هذا لا يخليه من مسؤوليته حسب أحكام القانون الدولي، ولكن من الممكن أن يساعده ذلك كأحد الظروف المخففة لصالحه، بحسب المادة الثامنة من شرعة المحكمة.
– كل متهم بجريمة دولية له الحق بمحاكمة عادلة طبقاً لأحكام القانون الدولي.
– إن المبدأ الذي يقول “لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص” المطبق في القوانين الداخلية، يمكن التجاوز عن تطبيقه في القانون الدولي.
الإبادة الجماعية
كذلك شرح مكتب المستشار الخاص المعني بمنع الإبادة الجماعية التابع للأمم المتحدة، الفارق بين جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية. وأشار إلى أن “منع الإبادة الجماعية والفظائع الجماعية يتطلب توزيع المسؤولية بين الدول المعنية والمجتمع الدولي وتعزيز التعاون بينهما. ويقع واجب منع الإبادة الجماعية والفظائع الجماعية ووقفهما على عاتق الدولة بالدرجة الأولى، ولكن يظل للمجتمع الدولي دور لا يجوز إلغاؤه بذريعة السيادة. فالسيادة لم تعد توفر للدول حماية حصرية من التدخل الأجنبي، بل مناط السيادة أن تكون الدول مسؤولة عن رفاه شعوبها. وهذا المبدأ مكرس في المادة الأولى من اتفاق منع جريمة الإبادة الجماعية، ويتجسد في مبدأ السيادة باعتبارها مسؤولية، وفي مفهوم المسؤولية عن الحماية”. وعليه فإن الإبادة الجماعية تُصنَّف كجريمة حرب محددة تفوق في شناعتها القتل غير القانوني للمدنيين، لكن القانون يشترط إثبات نية تدمير المجموعة. وقد أدت مذبحة وقعت في رواندا عام 1994، وراح ضحيتها نحو 800 ألف شخص، إلى محاكمات بتهمة الإبادة الجماعية لاحقاً.
حرب روسيا وأوكرانيا
أثار استهداف الطائرات والمدافع الروسية مواقع مدنية في أوكرانيا منذ بدء الغزو 24 فبراير (شباط) الماضي، مخاوف من ارتكاب جرائم حرب خاصة في أعقاب إفادة منظمة العفو الدولية بأن الجيش الروسي شن “هجمات عشوائية” في أوكرانيا. هذا مع تأكيد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن الضربات الصاروخية الروسية التي تستهدف مناطق مدنية في بلاده ترتقي إلى أن تكون “جرائم حرب” مع استمرار عمليات القصف الروسية على مدن ومناطق سكنية أيضاً. وأدان المجتمع الدولي مشاهد صور جثث المدنيين في شوارع مدينة بوتشا الأوكرانية، واتهمت كييف موسكو بأن قواتها ترتكب جرائم حرب. ويقول خبراء قانونيون إنه يتعين إثبات وقوع تلك الجرائم بالأدلة بشكل كامل ومراجعتها مرة أخرى والتأكد من ارتكابها. ويرتكز الخبراء في ذلك على مشاهد القتل المتعمد للمدنيين وعلى وقوع أعمال تعذيب وتهجير قسري وشن الهجمات العشوائية، ولأن أحد المبادئ الأساسية لقوانين الحرب وفق معاهدة جنيف، ينص على عدم استهداف المدنيين. على الرغم من ذلك فإن إثبات الأمر صعب إلى حد ما، وبحسب مارك كريستن، وهو من مدرسة مونك للشؤون الدولية والسياسات العامة في جامعة تورنتو الكندية، فإن “قوانين الحروب لا تكفل دائماً حماية المدنيين من الموت”، إذ إن المداهمات التي تستهدف المدن أو القرى أو قصف المباني السكنية أو المدارس أو حتى قتل المدنيين قد لا ترقى إلى جريمة حرب، بخاصة إذا كانت هناك ضرورة عسكرية تبرر ذلك وأن عملية الاستهداف كان لا بد منها. لكن هذه الممارسات يمكن اعتبارها جرائم حرب إذا أسفرت عن “دمار لا داعي له ومعاناة وخسائر تفوق المكاسب العسكرية وراء الهجوم”. ويضيف أنه “في سياق جمع الأدلة التي تثبت وقوع جريمة، هناك أهمية عامل الوقت في جمعها، لأنها قد تختفي أو تُتلَف مع مرور الوقت”. و”قد يجد فريق الادعاء صعوبة في التحقيق بشكل ناجع في جرائم حرب محتملة بعد وقوعها، إذ قد يقدم أحد طرفي الصراع على التلاعب في الأدلة أو قد يختفي شهود العيان”.
هل وقعت “جرائم حرب” في بوتشا؟
وكان الرئيس الأوكراني ألقى كلمة أمام مجلس الأمن الدولي عبر الفيديو في 5 أبريل (نيسان) الحالي، بعد الصدمة العالمية التي شكلها العثور على عدد كبير من الجثث في مدينة بوتشا (ضواحي كييف)، حيث اتهمت أوكرانيا، الروس بارتكاب مجزرة. وعرض الإعلام مشاهد لأناس بملابس مدنية وقد أُعدم بعضهم بإطلاق الرصاص على مؤخرة رؤوسهم. وهذا ما دفع مسؤولين حول العالم إلى وصف ما حدث في تلك المدينة على أنه فظائع بموجب القانون الدولي الإنساني. وقال رئيس بلدية بوتشا إن القوات الروسية قتلت 300 من السكان خلال احتلال دام شهراً للبلدة. ورأى صحافيون من “رويترز” و”وكالة الصحافة الفرنسية” ضحايا في مقبرة جماعية وجثثاً ملقاة في الشوارع. ووجد محققون ما يبدو أنه “دليل على القتل العمد للمدنيين في بوتشا”. وقالت القوات الأوكرانية إنها عثرت على مقابر جماعية، وهناك أدلة على مقتل مدنيين بالرصاص بعد تقييد أيديهم وأرجلهم. وهذا ما دفع رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إلى اعتبار أن تلك الهجمات “دليل آخر” على جرائم الحرب. كما قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إن روسيا “دمرت المباني السكنية والمدارس والمستشفيات والبنية التحتية الحيوية والسيارات المدنية ومراكز التسوق وسيارات الإسعاف” – وهي الأفعال التي قالت الولايات المتحدة إنها ترقى إلى جرائم حرب. وكانت القوات الروسية نفذت غارة في مارس (آذار) الماضي، على مسرح في مدينة ماريوبول، وكان ذلك على ما يبدو أول موقع مؤكد لعملية قتل جماعي، إذ كانت كلمة “أطفال” مكتوبة بأحرف عملاقة خارج المبنى. كما وصفت أوكرانيا في السابق الضربة الجوية الروسية على مستشفى ماريوبول بأنها جريمة حرب. إضافة إلى أن هناك أدلة متزايدة على استخدام القنابل العنقودية في مناطق يسكنها مدنيون في مدينة خاركيف. وتقول بريطانيا إن روسيا استخدمت المتفجرات الحرارية التي تخلق فراغاً هائلاً عن طريق امتصاص الأوكسجين. وعلى الرغم من أن القنابل الحرارية ليست محظورة، فإن استخدامها المتعمد بالقرب من المدنيين يخالف قواعد الحرب بصورة شبه مؤكدة.
ونفت وزارة الدفاع الروسية مزاعم أوكرانيا، ووصفت اللقطات والصور التي تُظهر جثث القتلى بأنها “عرض مسرحي من جانب نظام كييف لوسائل الإعلام الغربية”. كما نفى الكرملين ارتكاب جرائم حرب أو استخدام القنابل العنقودية والفراغية، واصفاً الاتهامات بأنها “أخبار كاذبة”. وقال وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، إن “الضربات تتم فقط على أهداف عسكرية وباستخدام أسلحة عالية الدقة”.
من يحاكم المتهمين بارتكاب جرائم حرب؟
منذ الحرب العالمية الثانية جرت سلسلة من المحاكم المنفردة، بما في ذلك المحكمة التي تحقق في جرائم الحرب التي ترافقت مع تفكك يوغوسلافيا. كما تم تشكيل هيئة لمحاكمة المسؤولين عن الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994. لكن اليوم بات للمحكمة الجنائية الدولية (ICC) ولمحكمة العدل الدولية (ICJ) دوران منفصلان في التعامل مع القضايا وفقاً لقواعد الحرب. فمحكمة العدل الدولية تفصل في النزاعات بين الدول، لكنها لا تستطيع محاكمة الأفراد، وقد رفعت أوكرانيا بالفعل قضية ضد روسيا لديها. ولكن يقول خبراء في مجال القانون إن محاكمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أو غيره من القادة الروس ستواجه عقبات كبيرة وقد تستغرق سنوات.
وإذا ما حكمت محكمة العدل الدولية ضد روسيا، فسيكون مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مسؤولاً عن إنفاذ ذلك الحكم. لكن روسيا، أحد الأعضاء الخمسة الدائمين في المجلس، يمكن أن تستخدم حق النقض “الفيتو” ضد أي اقتراح لمعاقبتها. أما المحكمة الجنائية الدولية، فتحقق في قضايا مجرمي الحرب الأفراد الذين لا يمثلون أمام محاكم الدول الفردية. وبذلك تُعد المحكمة الجنائية الدولية بمثابة “الوريثة” لمحاكمات نورمبرغ الشهيرة، التي حاكمت قادة نازيين بارزين في عام 1945.
أشهر محاكمات “جرائم الحرب”
وإثر مقتل عدة ملايين من الأشخاص، معظمهم من اليهود، على يد ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية، وإساءة معاملة المدنيين وأسرى الحرب على حد سواء، عمدت قوات الحلفاء إلى مقاضاة الأشخاص الذين يعتقدون أنهم مسؤولون عن ذلك، عبر ما عُرف بـ”محاكمات نورمبرغ”، وهي عبارة عن سلسلة من المحاكم العسكرية التي عقدتها قوات الحلفاء وفقاً للقانون الدولي وقوانين الحرب. وحققت المحاكمات شهرتها الكبرى نظراً إلى محاكمة مسؤولين كبار في القيادة السياسية، والعسكرية، والقضائية، والاقتصادية في ألمانيا النازية، الذين كانوا ضالعين في التخطيط، أو التنفيذ، أو المشاركة بوجه من الأوجه في “الهولوكوست” الذي يشمل خمسة ملايين إنسان إضافيين من غير اليهود الذين كانوا أيضاً من ضحايا القتل الجماعي للنظام النازي، وغيرها من جرائم الحرب. وأدت محاكمات نورمبرغ في عامي 1945 و1946 إلى إصدار حكم بالإعدام على عشرة من القادة النازيين، كما بدأت عملية مماثلة في طوكيو عام 1948 حيث تم تطبيق حكم الإعدام شنقاً على سبعة من القادة اليابانيين.