لماذا التصويت لمارين لوبن ليس تصويتاً لليمين المتطرّف؟
النشرة الدولية –
فيما كان العالم يتنفّس الصعداء بعد انتصار ايمانويل ماكرون على مارين لوبن في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، كانت سلوفينيا، هذه الدولة الأوروبية الصغيرة في أوروبا الوسطى، تستكمل ما أنجزته فرنسا بإلحاق روبرت غولوب، الليبرالي المؤيّد للاتحاد الأوروبي، هزيمة نكراء برئيس الوزراء يانيز يانشا “الحليف العقائدي” لكلّ من رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان ومارين لوبن.
ولعلّ هذا الإنجاز السلوفيني يمكنه، في مكان ما، أن يُخفّف من المخاوف التي يثيرها ارتفاع نسبة التصويت لمارين لوبن في فرنسا، إذ إنّ اليمين المتطرّف، ولو أفادته الظروف، إلّا أنّه، في غالبية الدول الديموقراطية، سرعان ما ينكفئ كما حصل في سلوفينيا، يوم الأحد الماضي حيث خسر هذا اليمين، بعد سنتين فقط، كلّ ما كان قد سبق أن حصده.
وفي فرنسا هناك إشارات كثيرة إلى أنّ ارتفاع نسبة التصويت لمارين لوبن من 33,9 بالمائة في انتخابات العام 2017 الى 41,4 بالمائة في هذه الانتخابات، ما كان ممكناً لو أنّها لم تُدخل تعديلات جذرية على أدبياتها السياسية، سواء بما يتّصل بالنظرة الى “الإتحاد الأوروبي” أو بمخاطبة الأقليات العرقية والدينية، ولو أنّها لم تطرد من حزبها رموز “الفاشية” يتقدّمهم والدها جان- ماري لوبن، مؤسس حزب” الجبهة الوطنية” الذي أصبح بعهدة ابنته “التجمّع الوطني”.
ولا يقتصر الأمر على ذلك، فماكرون لم يُحقّق انتصاراً كلاسيكياً، ولو أتت نتائجه، في ظل مقاطعة مرتفعة نسبياً، عادية، فهو أوّل رئيس فرنسي، منذ الراحل جورج بومبيدو، نجح في البقاء لولاية ثانية في قصر الإليزيه، من دون أن يكون قد وجد نفسه في ولايته الأولى المنتهيّة مضطرّاً إلى التعايش مع حكومة “معادية”.
وهذا يعني أنّ ماكرون هو الرئيس الفرنسي الوحيد في الجمهورية الخامسة الذي حمل الى الانتخابات نتائج أفعاله الرئاسية ونتائج أفعال حكومته ونتائج أداء الأكثرية النيابية الموالية، ونجح ضدّ مرشّحة خارجة من رحم اليمين المتطرّف.
وكان رؤساء فرنسا الذين تمكّنوا من الحصول على ولاية ثانية-وآخرهم الراحل جاك شيراك-يذهبون الى حملات الإنتخابات الرئاسية متحرّرين من تداعيات “إهتراء الحاكم”، لأنّه كان سهلاً عليهم إلقاء هذه الأعباء على الحكومة التي فرضتها عليهم أكثرية نيابية “معادية”، وتالياً كان لديهم عازل فعلي يحميهم من غضب شرائح واسعة من الناخبين.
وبما أنّ ماكرون لم يستفد من هذا “العازل”، لدرجة أنّه تمّت محاسبته، في المناظرة الرئاسية، حتّى على تدهور مستوى مادّة الرياضيات في المدارس الفرنسية، فإنّ النتيجة التي حصدتها مارين لوبن، لم تحصدها بصفتها الحزبية حصراً، بل بصفتها الممثّلة الوحيدة في الدورة الرئاسية الثانية لحالات الغضب المتنامية، أيضاً.
ولوبن أدركت ذلك، منذ اليوم الأوّل لانطلاق حملة الدورة الثانية، إذ لم تدعُ الناخبين الفرنسيين للإقتراع لها، بما تحمله من ميزات ووعود وبرنامج وأهداف، بل بما تمثّله من جبهة رفض للرئيس المنتهية ولايته الذي جرى وصفه، إستناداً إلى “شطحات تعبيرية” وقوانين ضرائبية، ب”العنجهي” و”المتكبّر” و”المتألّه” و”كاره الفرنسيين”، و”عاشق الأثرياء”.
بمعنى آخر، فإنّ الأصوات التي نالتها مارين لوبن لم تنلها بصفتها مرشّحة اليمين المتطرّف فقط، بل نالتها، أيضاً، بصفتها “الملاذ المتاح” للفئات الهشّة في المجتمع الفرنسي، وللمتضرّرين من التضخّم الذي فرض نفسه على “سلّة الإستهلاك” في أوروبا والعالم منذ بدأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تجميع قواته العسكرية على الحدود الأوكرانية، وللمقتنعين بأنّ الآليات التي يعتمدها النظام الفرنسي لم تعد قادرة على إسماع صرخاتها المطلبية.
وهذا ما أظهره التشريح الإنتخابي، بحيث بدا أنّ الإقتراع أظهر انقساماً طبقياً في فرنسا، وليس انقساماً عقائدياً.
بالمحصّلة إنّ نتائج مارين لوبن كان يُمكن أن تُثير المخاوف من ارتفاع نسبة “اليمين المتطرّف” بين الفرنسيين لو أنّها لم تُدخل تغييرات جذرية على حزبها، ولم تتخلّ في الحملات الانتخابية عن شعاراتها الكلاسيكية، ولم تتبرّأ في مقابلاتها الإعلامية من أقوال “عنصرية” و”فئوية” سبق أن نطقت بها، ولم تحاول أن تكون رجع صدى للإستياء الشعبي، ولم تستفد من “هريان السلطة” الذي ترك أثاره على ايمانويل ماكرون.
في واقع الحال، فإنّ الصوت اليميني المتطرّف كان قد صبّ على المرشّح إريك زيمور، ولم يتجاوز، كما بيّنت نتائج الدورة الانتخابية الأولى، نسبة سبعة بالمائة.
زيمور كان قد حمل، من دون مواربة، شعارات اليمين المتطرّف التي استقطبت شخصيات عملت سابقاً مع لوبان وقرّرت الإنفصال عنها، بسبب تعديل أدبياتها السياسية وتطوير شعاراتها الانتخابية.
إلّا أن ذلك على أهميته، لا يقود الى الإستنتاج بأنّ فرنسا لا تُعاني من مشاكل عميقة وجوهرية، بعضها يتّصل بنهج الحكم وبعضها الآخر يستتبع الواقعين الإقليمي والدولي، ومن شأن التغاضي عنها دفع المجتمع في وقت لاحق إمّا الى راديكالية يمينية أو يسارية.
وهذا ما يُفسّر اندفاع ماكرون إلى إحياء حفل انتصار متواضع، حيث ألقى كلمة عبّرت عن استيعابه للرسائل المهمّة التي أوصلتها إليه نتائج الانتخابات الرئاسية.
وأمام ماكرون أقلّ من شهرين من أجل تقديم أدلّة مقنعة على صدقية إعلانه هذا، لأنّه في 12 و19 حزيران (يونيو )المقبل سوف يكون أمام امتحان شعبي جديد، إذ إنّ الفرنسيين سوف يتوجّهون، في هذين الموعدين، إلى الانتخابات النيابية، حيث يُمكن أن تتعرّض الأكثرية التي يحكم بها، إلى مخاطر التآكل سواء عبر “يمينية” مارين لوبن أو “يسارية” جان لوك ميلونشون الذي كرّسته الانتخابات الرئاسية في مرتبة “القوّة الثالثة”.
على أيّ حال، إنّ أهميّة الانتخابات في الدول الديموقراطية تكمن في أنّها لا تقتصر على الفائزين والخاسرين، بل تمتد الى ما تُرسّخه من دروس من شأن الإسترشاد بها أن يُنقذ البلاد وشعبها والنظام وقواه من مصير أسود كذاك الذي عانت وتعاني منه دول تزعم أنّها تحكم بإرادة الشعب وباسمه ومن أجله!
وهذه الدروس سبق أن استوعبتها مارين لوبن، فاعتدلت ما أمكنها، وهي التي يُفترض أن يستلهما ايمانويل ماكرون فينكبّ على إنقاذ فرنسا من مصير راديكالي لا يليق بها!