الشاعرة العراقية نيسان سليم رأفت تتغنى بأجمل خيباتها

أنثى كشجر التين

النشرة الدولية –

ميدل ايست اون لاين  – كريم عبد الله –

عندما تأتي الحرب بجحافلها تهدي إلينا الخيبات، مجنزراتها تسحق أحلامنا البريئة وتغيّب ملامح مَنْ نحبّ، رصاصاتها المتغطّرسة حتماً ستغتال الإنسان في أعماقنا، حينها سيولد إنسان آخر يحاول مسح أفراحنا ويغادر إلى جهة رابعة مجهولة، ليترك في القلب أنياب غيابه الكاسرة تجيد لعبة الإيلام والاختفاء خلف المجهول، ويبقى للشاعرة نيسان إلاّ ثلاث جهات تكون قبلتها، تتشتت أقدامها في الدروب البعيدة، فكيف إذا كانت الأقدار متآمرة عليها بعدما مسحت آثار أقدامه المتصحّرة في عيون المدن المسكونة بأنفاسه والغائرة عميقاً تبحر في شرايينها؟!

إنّ لغة الموت والفقد لمن أشدّ اللغات قسوة وإيلاماً حينما يتحدث بها الإنسان، الموت هذا القدر المرعب الذي يطاردنا مهما اتسعت بنا الحياة وتشعبت، وحده يأخذنا إلى الغياب والفناء ويحمل سنوات العمر بكل ضجيجها وأفراحها وأحزانها وملامح ذكرياتنا إلى الهنااااااك. إنّه الضيف الثقيل الظلّ يرافقنا منذ أول صرخة نصرخها ونحن نأتي إلى هذا العالم يذكّرنا بالضعف والتغيير وانّ الغروب موعدنا الأكيد.

في هذه البقعة المباركة من الكرة الأرضية يستحوذ علينا شبح الموت دائما، لأننا أصبحنا أولاد الحروب الكثيرة التي تفتك بنا بقسوة وتلتهم أيامنا، فمنذ الطفولة كنا نتعرّف على الحرب في مدارسنا ومنظّماتنا الحزبيّة، وفي برامج الإذاعة والتلفزيون، وعن طريق أدب الحرب وثقافتها وأناشيد التبجيل للقائد الضرورة، وإلى الآن نعيش أجواء الحرب ويحتلنا الرعب والهلع من عدو مجهول صًوّر لنا مقبل الآخرين وزرعوه في عقولنا التي بّرمجت على الضعف والخوف.

رحلة مفعمة بالنزف والدموع والخيبة والفقد، والديوان تراجيديا كان الموت فيها حاضرا والغياب يملء الروح النقيّة والمسالمة

إنّ المتتبّع لرحلة الشاعرة نسيان سليم رأفت في جهاتها الثلاث؛ للجنوب يجد بأنّ الحرب فرضت حضورها وبشدّة ووضوح في أغلب القصائد، فالزمن هنا مفقود في جميع الأماكن والطرقات والمدن، والموت وحضوره القاسي يتواجد بواقعيته في النفس الشاعرة. لقد تضخّمت أنوثة الشاعرة بالفقد في زمن الحرب فانطلق حرفها ينفض عنه الرماد والحزن بفعل الواقع المشحون بالموت والرحيل وإثارة الذكريات التي مازالت عالقة بذاكرة المكان والزمان، ونحن نتأمل كيف تأفل الأحلام وتتسرّب من جيوبنا الحزينة نجد بأنّ صوتها كان صادقا في رسم ملامح الحياة وفناء صور الحبيب واختفائها في سجل التواريخ المهمّشة.

لقد كان صوتها صوت البلبل المفجوع في نيسان العطاء، متأنقاً في اختيار المفردة المشحونة بأجراس الخيبة وصورها المتدفقة داخل النفس البشريّة مثقلة بالوجع والهزيمة، تنبعث من أعماق الروح وتحت إمرةِ العقل فيّاضة تغوص في المحنة وتنبعث من خلال ويلات الحروب متألّمة بواقعية تأسرنا أجراسها وتعبّر أصدق تعبير عن ضياع الإنسان وغربته، لا ينفر منها المتلقي إنّما يتقبّلها منتشياً بعبقها لما تحدثه في النفس من أثر وتأثير، خفيفة عذبة تطرق أسماعنا فنستقبلها وتفضح الخلجات ولوعتها وتصوّر لنا المشاعر من خلال تركيبات جمليّة غنية تسترعي الانتباه إليها رغم كثرة الموت والغياب.

في قصيدة “نوارس الحضور” نستشعر الغياب والحضور في هذا التراكم اللغويّ يتشعّب ويتمدّد في القصيدة، ونلاحظ فعل تجاعيدهما في النفس فتتكاثر الندوب في الضمير، ويلتهم الروح بشهيّة هذا الواقع الغارق بالتلاشي والزوال.

إلى دجلة الخالد / كتب في راحة يده اليسرى / اسمي …. / مع ذكرى دجلة / كنت أتمنى أن أغيب / غياباً طويلاً / يحمل امتياز الحضور / وصحوة الضمير / لمَنْ رافقتهم / قبل أن يصيب الخواء / دِلال كلماتي  .
وفي قصيدة “كانّ الوقت قد تأخّر” نقراأ نزف الوقت وأنفاقه الموحشة والرغبة في العودة إلى زمن الشباب وعنفوانه قبل الدخول في نفق الغياب.
كأنّ الوقت قد تأخّر / لتعود إلى حلمها القديم / تهرول بضعف عشرينها / مستنجدة بالمدن / التي ضاقت بها شوارعها / حتى بدأت ساعات شوسها / بالانطفاء .
إنّ تكرار الارقام ودلالاتها تتكرر كثيرا في الديوان، وكأنّ الشاعرة تعدّد سنواتها وتؤرخ بها محنتها لتواصل النزف وتستطعم الإحساس بالنهاية، فنجد في قصيدة “أجمل ما في الكتابة”.”
عن عشريني ..؟؟؟ / وثلاثيني التي تبعثرت  / في قعر الأربعين …. / من ألوان الطيف حتى / راجت بالسواد على عاج جلدتي / فكسرني خط الذكرى / بعودتي إلى رنّة الهاتف / لأجد تهنئة .
وفي قصيدة “بندقية تنام قرب قتيلها” نجد الحنين والاشتياق ينمو كالجنين مع أنغام “أغنيات البنفسج” وروح الشاعرة تكبر بوحشتها وأخيلتها تتعاظم متأرجحة تنزلق في نبرات القصيدة .
حتى تنسلّ روحي / لمّنْ أحب بيسر / وحتى أكسر ما أعتادته أيامي / على لون الكحل الرمادي / بدل الأسود الفاحم .
وفي مقطع آخر من نفس القصيدة :
ها أنا أعيش … / وقلبه يكبر بصدري / يجتاز الحدود .. والمسافات بدليل روحي .
وفي قصيدة “طيور أيلول” نجد ملامح الغياب واضحة ولوعة الغربة وعقم الزمن واضمحلال الدفء على مسرح الحياة ..
أتوق لذاك النهر / الذي رافقت جريانه / ولَمْ أنحنِ يوماً لأشرب منه / حتى بدأ عود الخريف  / بالميلان … / كأعواد الكبريت المحترقة .
إنّ ما يؤلم أكثر هو فقدان الأمل في هذه الحياة وغروبها واندثار مَنْ نحب مكرهين والمضي نحو رحلة الأبديّة، كما في هذا المقطع من قصيدة “جرعة أمل”:
كنت أتوق لجرعة أمل / تمنحني الراحة لبعض الوقت / لسعادة مؤقتة / كتلك التي تعوّدت / أن أحظى بها بروح راضية / ونفس مطمئنة .
إنّ شبح الحرب وويلاتها تطارد الشاعرة وتقلقها وهي تعيش داخل دائرة الحرب وقسوتها وفقدان الزمن والذهاب بعيدا في أحلام اليقظة تفتك بها على مسرح الحياة، كما في هذا المقطع:
يوقظني حلم / على عربة المقعدين / تجرني أذيال خيبة الذين / ماتوا في الحروب / لأجل لا شيء .

 

ونجد أيضا صورة الوطن الذي شوّهه اللصوص والطغاة حاضرا حينما تخاطب الآخر المفقود في أتون الأزمنة والغموض، كما في هذا المقطع من قصيدة “رصيف”:
مشته خواطر وطن مكسور/ التظاهر الكاذب / الذي اعتادته روحي / حين أبرّر سبب بكائي / وأنا في المطبخ / الدفاتر التي أدوّن فيها / أصدق حالاتي أسميها مسودّات / رسائل أهملتها وهي أكثر ما فيها يهمّك .
لقد مثّلت الشاعرة واقعها وبالخصوص واقع المرأة العراقية في هذا الديوان، المرأة التي تعلّمت أن تجيد الحداد والدموع والحزن، وتضاجع الفقد والحرمان نتيجة المحنة وكثرة الحروب العبثيّة، فلو رجعنا إلى تاريخ ميلاد الشاعرة لوجدناه في بداية السبعينيات، في هذه الفترة عاش فيها العراق السلام والهدنة مع الحرب، لكن سرعان ما تسارعت الأحداث لتبدأ الكارثة الكبرى وتستمر الحروب حتى يومنا هذا. لقد عاشت الشاعرة جميع الحروب التي حدثت فرسمت لنا هذه الصورة المأساوية عن المرأة العراقية، كما في هذا المقطع من قصيدة “رصيف “:
(عايدة) و(نازك) و(نادية) / أجمل فتيات المدينة الصغيرة / وبوصلتها الخالية / من جهة الشرق / لم يعد الأمر يهمني / بيوم زائد …/ أو قل كلهن رحلن ../ فالأولى ترمّلت في حرب الثمانين / والثانية هاجرت بعد حرب التسعين / وأما الثالثة تعيش الأختناق / تبدده على ورق افتراضي / أو صورة مرفقة / مع موضوع لا يهمك / ولا يهمّ أحداً / أو لربما كانت اإليك .

تأبط ظلّك المهزوم
فكلما يجيء ذكر المرأة يحضر معها الرجل المفقود من الواقع لكنه يأبى أن يغادر الذاكرة المشحونة بأطيافه، وهي تتزاحم دوما في مخيلة الشاعرة المنكوبة بفقده. نعم هو الرفيق والأنيس لها في غربتها فلا سبيل لحضوره إلاّ عن طريق استدراجه في الحلم، فنجد حضوره كما في هذا المقطع من قصيدة “أستعيرك حلماً “:
يومان ../ أحببتك فيهما كثيراً / يوم عرفتك ../ ويوم لا تاريخ فيه يدوّن / حوارات كثيرة / لا تشبه النهايات بداياتها / أخطاء ثمينة / كبرت في عمر اليباس.
إنّه الإحباط والحرمان الذي لازم الشاعرة من بداية الديوان إلى آخره، فلا سعادة تطرق أبواب أيامها ولا سكينة تبعث الهدوء النفسي، ففي قصيدة “الكتابة انتصار” نجد هذا القلق والحزن والخوف والتوهان :
كنت أمتلك واحة من الكحل / لا أكتفي إلاّ بحجم المغرفة / من شأنها أن تروي عطشي لرؤياه / ماعاد اليوم كذلك …/ لم يعد خطّ الكحل يعربد في نظراتي / ولا يلوّث فرح بكائي بحبه ../ ربما مازال طفل الوقت يجهل شأن الحياة / هكذا … قد جفّ رضاب الصيف / في اللقاء .
نعم هكذا تجفّ سنوات العمر من حضوره ويدبّ الخراب في النفس وتعبث بها الأقدار، ففي قصيدة “زرقة البنفسج” نجد الخطاب واضحا وجلّيا لمن كان يا غطاء الروح / وعنفوان القصائد المحترقة / بأيّ وترٍ كتبتك الأيام / وأيّ الأسماء ألفتك دوني.
إنّه العتاب المرّ والشكوى من الهجر والابتعاد ومغادرة قلب الشاعرة إلى جهة أخرى، كلّ هذا تصوره لنا الشاعرة بصوت خافت هادىء حزين مغلوب على أمره، صوت أنثى ذاقت القهر وعاشت المرارة، كما في هذا القطع من نفس القصيدة:
وتنتقي للعشر فوق أربعينك / أنثى كشجر التين / وكما يريد الحبّ / تختصر كل النساء / اللاتي أحببتهن وهجرتهن / شارة النهاية …./ في نصوصك القديمة.
هكذا تتجلّى الخيانة بالهجران والتنصّل من كل المواثيق والعهود بينهما، ويذهب يبحث عن أنثى أخرى بطعم التين ريّانة تمتلىء شبابا وأنوثة لا لشيء سوى إشباع غرائزه المتكررة والجامحة. فينتابها الشكّ من كل شيء نتيجة ما ذاقت من الحرمان والخسارة، فنجد في قصيدة “مساران” هذا القلق وعدم الاستقرار النفسي عندما تنازعها الأفكار .
لمْ يعجبني الأمر / اثنان يحاصران زوبعتي / قلب يعجّ بالضوء / وعقل يقاسي عتمته / أي المسارين أسلك ../ كبرت فوهة الأخطاء / وعجزت عن طمر الذنوب / صور وقصائد / ما تزال رطبة مثل شجر الزيتون / خضراء في كل الفصول.
فتلجأ الشاعرة إلى الشعر كي تبثّ مواجعها إلى الورق وتسكب دموعها حبرا من الدم يلوّن كلماتها، ففي قصيدة / بلا ضجّة، نجد كيف يتسلل إليها الظلام وتتلاشى أصوات أغنياتها لذاك الساكن في البعيد .
يسطّر الحبر / غضب الأيام على دفاتري / وتلك النقط ……… التي / أماتت الحروف المررة بنبضي / فلتعذرني نثريات الشعر / فلتعذرني نجيمات السماء / بلا ضجّة … / ركنت العناكب على نافذتي / ولم يعدْ يغرّد الحمام بشِعري / كم مرّة أهديته ضحكتي / وتغنّت المواويل / ببحة صوتي.
لقد أصبح هذا الحبيب أجمل خيبات الشاعرة ذاك الذي اجتهدت كثيرا أن تضعه داخل نصوصها كي يرافقها في رحلة الحياة والحرف، ولكن … ؟! ففي قصيدة “أجمل خيباتي” تقول:

.. حدث … / أنّك كنت أجمل خيابتي / لم اسعَ في حياتي ../ مثلما سعيت للإحتفاظ / بطريقة العيش بيني وبيني .
وتستمر في ذكر خيباتها: هكذا أراني أكبر / لم أدرك حينها / كم كنت كبيرة بما يكفي / وصغيرة في مواقف أخرى لا أتذكرها .
وتستمر في محنتها ولا عزاء لها سوى الكلمات؛ فتقول: ذاك الذي أجتهدت بوضع النصوص له / بشهيّة …/ أحتفت به كل قصائدي / حتى طلب منّي الرحيل / قال لي: دعيني أرفو ما تمزّق من خيمتي / وما تصدّع من حولي / فنال شرف أن يكون / أجمل خيباتي .
إنّها ألأنانية المفرطة والعبثية بالمشاعر الصادقة وسحق كل الأحلام المعشعشة في الروح وتمزيق القلب بلا رحمة.
وتشتدّ غربة الشاعرة بعدما تخلّى عنها الجميع ولم ينتبه لمحنتها ومكابدتها الآلام أي إنسان آخر، فتقول مقطع من قصيدة “غربة شوارع “:
لا أحد ينبه لي / سوى آثاري المنغرزة / على أرصفة كرستال / لا وجه لي ../ سعي بلا ملامح / أشبه الوطن الذي / فشلت أن أكون ضمن حدوده .
وهكذا تصبح الأيام عبارة عن رفات وأطلال مزّقتها ريح الغدر والخيانة ومزّقتها حراب الحروب، ففي مقطع من قصيدة “رفٌّ لفتات العمر”:
لا تسأل يوماً / عن مكاني / فأنا وسواي لا موطن يسكنني / أشبه بضحية معاصرة / أبتلعت حبالها الصوتية / لم تعد الأيام كسابق عهدها / ولا الساعات التي كنا ندور بها / نقش عن رفوف نودع فيها بعضا / من فتات أعمارنا / وأين لنا بأرض / يحرّم فيها قتل الحمام .
وهكذا تستمر الشاعرة في تعداد خسائرها واستذكار الفقد والغياب الحاضر في تفكيرها دوما إلى أن تصل إلى نهاية حكايتها، إلى آخر قصيدة في الديوان المتخم بالوجع والأنين والتشظّي والغربة، ففي مقاطع من قصيدتها الأخيرة وندائها الأخير إليه / أطوِ جناحيكَ .. هنا تطلب منه أن يغادر سماواتها فما عادت صافية زرقاء نتيجة ما تعرّضت له بسبب الحرب والخسارة والفقد والخيانة :
تأبط ظلّك المهزوم / قد تسامت الروح / أنا … وأنت / والحرب تحتاج الى مَنْ يوقظها ..
وتستمر كما في هذا المقطع أيضا :
برحيلك تعلمت / أن أمسك العبرات من أكمامها / كي لا ينزف كحلها.
لقد كانت رحلة مفعمة بالنزف والدموع والخيبة والفقد، لقد كان ديوان الشاعرة نيسان سليم رأفت “… ثلاث جهات … للجنوب” عبارة عن تراجيديا كان الموت فيها حاضرا والغياب يملء الروح النقيّة والمسالمة .

زر الذهاب إلى الأعلى