انحرافات النفس البشرية لا حدّ لها في مسلسل “انحراف”
النشرة الدولية –
العرب – حنان مبروك –
انتهت عروض الموسم الرمضاني منذ نحو أسبوع ورغم ذلك لا تزال بعض المسلسلات تثير جدلا بين متابعيها، وتخضع للتحليل والنقد وكذلك للتوقعات بدخولها دوامة الأجزاء، بناء على نهاياتها المفتوحة.
ومن بين هذه المسلسلات، مسلسل “انحراف” الذي عرض هذا العام في ثلاثين حلقة، وكان من بطولة الفنانة المصرية روجينا، وكان يغرّد خارج سرب الأعمال المتنافسة، فلا هو يتبع “موضة” الدراما الشعبية التي تتهافت عليها الغالبية منذ سنوات ولا هو مسلسل تاريخي أو أكشن، بل هو عمل يغوص في أعماق النفس البشرية وتأثيرات الانحرافات السلوكية وأبعادها ومسبباتها على الفرد والمجموعة بناء على أحداث وقصص ووقائع حقيقية جمعها المؤلف من أرشيف المحاكم ومستشفيات الأمراض النفسية والتقارير الإعلامية، ليقدّم للمشاهد مسلسلا يستفز عقله ويعيده إلى محيطه ليبحث في نماذج مشابهة لما يشاهده ويسمع عنه.
و”انحراف” من إخراج رؤوف عبدالعزيز وتأليف مصطفى شهيب، وبطولة روجينا ولوسي وسميحة أيوب وعبدالعزيز مخيون وأحمد فؤاد سليم ومحمد لطفي ورانيا محمود ياسين ومحمد كيلاني وأحمد صفوت وسما إبراهيم ومحمد مهران وآخرين.
وتلعب روجينا في المسلسل دور طبيبة نفسية تدعى “حور” تقرر الثأر لكل المظلومين الذين تعرفهم، فتدخل في سلسلة من جرائم القتل، وهو قتل كان في معظمه مقنعا فروجينا فنانة متمكنة من أدواتها ولها من الخبرة ما يؤهلها للعب أدوار متنوعة تظل محفورة في ذاكرة المشاهد، وهي منذ العام 1991 تشارك في أدوار مسرحية وسينمائية وتلفزيونية بشكل دوري مكنها من صقل موهبتها.
يسافر المشاهد مع روجينا (حور) في رحلة شيّقة شعارها “المتعة مش في القتل.. المتعة إنك تعذب اللي بتقتله”، ولأن البطلة لا تقتل أحدا بالصدفة أو دون أسباب، فإنه قد يجد نفسه متعاطفا معها، مرتاحا لما تقوم به لا بل أحيانا قد يكون فرحا بما حصل، فهي تختار “ضحاياها” بدقة متناهية، فتنتصر للمظلوم وتعيد له فرحة قلبه.
تسير “حور” وفق خط درامي متماسك، فلا تثير الشكوك حولها، ولا تترك أدلة، بل تتلاعب بالقانون وتهرب من العدالة قدر استطاعتها، فتجعل من يتابعها ينتظر ما سيحصل بعد ذلك، فلا بدّ من نهاية لكل بداية، لكن النهاية هذه المرة كانت صادمة له وعكس أغلب التوقعات.
تكتشف حقيقة حور على يد زوجها الضابط شريف (أحمد صفوت)، فتتم محاكمتها، إلى أن يظهر طبيبها النفسي ويكشف السر الكبير بأنها مريضة نفسية تدعى وسام وما أفعالها وجرائمها سوى سلوكيات منحرفة.
ثم تتكشف للمشاهد أن حور لم تكن شخصية من خيال البطلة، بل هي ضحية من ضحايا المجتمع قُذف بها في المستشفى النفسي، فاختارتها وسام هوية جديدة لها، وسام تلك الفتاة التي كانت هي الأخرى ضحية لسلوك أقاربها المنحرف.
لقي المسلسل إشادة واسعة، حيث يعدّ البطولة المطلقة الأولى لروجينا، وجاءت بطولة مختلفة عن التوقعات، لكنه سلّط الضوء أكثر على موهبة حديثة على عالم التأليف الدرامي وهو المؤلف مصطفى شهيب.
https://youtu.be/i_CvhQHnPOs
وفي حديث مع “العرب” يحكي مصطفى شهيب أن تجربته الأولى في عالم الدراما جاءت بعد “تجارب سابقة في الكتابة الروائية، حيث ألفت على مدار الإثني عشر عاما الماضية ستة كتب كانت ناجحة ومن بين الأكثر مبيعا في مصر، ومن بينها ‘طريقي من الشك للشك برضه’، و’كل الطرق تؤدي لستين داهية’، كما كتبت برامج في الإذاعة ومسلسلات إذاعية ومسرحيات ناجحة وكلها كانت تجارب فردية، تعتمد على الكتابة النقدية الساخرة”.
وأغلب الأسماء الحديثة على التأليف الدرامي تختار البدء ضمن ورشات للكتابة والتأليف، اكتسابا لخبرة ومعرفة بالكواليس تمهد لها فرصة للإعلان عن ميلادها الفني الفردي، لكن شهيب لديه موقف مغاير من ذلك، حيث يقول “كنت أرفض أي عمل مشترك مع مؤلف ثان أو أكثر من مؤلف انطلاقا من إيماني بأن الكتابة فعل شديد الذاتية، وفي هذه النقطة بالذات لدي قناعة كبرى بأن تبادل الخبرات يكون بالتحاور والتعارف بين الكتاب وليس في إنتاج العمل الدرامي، بإمكاني أن أستقي من أي مؤلف خبرته ونصائحه بشكل شخصي لكنني لا أفضل مشاركته الكتابة وفنونها”.
وشهدت مصر خلال العامين الماضيين موضة ورشات الكتابة، صحيح أنها موجودة ومعمول بها منذ عقود لكنها انتشرت بكثرة وأسهم المؤلفون المشاركون فيها في كتابة مسلسلات عرض أغلبها خارج السباق الرمضاني، وكان معظمها في شكل حلقات منفصلة (ثنائية أو ثلاثية أو خماسية فأكثر وأقصاها عشر حلقات) وتتناول قضايا مستقاة من الواقع وقصصا إنسانية طرحت مشكلات وظواهر من الحياة اليومية للمصريين وجوانبها السلبية والإيجابية.
وفي تعليقه على ذلك، يرى مصطفى شهيب أن “ورش الكتابة لم تنجح بالشكل الكافي والدليل على ذلك أن لدينا ورشات كتابة عديدة ومسلسلاتها لم تحظ بالنجاح اللازم، لولا تيمة العمل وموضوعه بصفة عامة، وتقريبا 80 في المئة من تلك الورشات تأخذ الكتابة كتجارة وإنجاز العمل بأكثر عدد من الناس بغض النظر عن الغرض الرئيس من التأليف للدراما ألا وهو ‘الإبداع’”.
وبنى هذا المؤلف الشاب موقفه بناء على تجارب رواد التأليف الدرامي في مصر والمدارس التي صنعت خلال العقود الماضية أعمالا خالدة تعالج موضوعات مهمة في حياة المجتمع المصري والعربي.
ويوضح في تصريحه لـ”العرب”: “أرى أن المؤلفين المتخصصين في الكتابة الدرامية والسينمائية في الماضي استطاعوا أن يصنعوا لأنفسهم أساليب خاصة بهم، بمفرداتها ومفاتيحها وإفيهاتها وكليشيهاتها، فمثلا حين تسمع مسلسلا قديما دون أن تعرف اسمه أو تشاهد لقطات منه، بإمكانك معرفة من ألفه انطلاقا من الحوار بين الشخصيات، فأسلوب وحيد حامد مثلا لا يشبه أسلوب أسامة أنور عكاشة، فلكل منهما شخصيته وثقافته ومستوى وعيه وتفكيره الذي ينعكس على طريقته في الكتابة والتأليف”.
ويتابع “بناء على ما سبق يكون العمل الفردي متماسكا وذا طابع خاص وأنا ابن هذه المدرسة ولست من مدرسة ‘من كل رجل قبيلة’”.
لماذا انحراف؟
أول ما يشدّ المشاهد لأي عمل درامي هو عنوانه، والعنوان في هذا المسلسل كان أول ما أثار لغطا واستنكارا بين جمهور المسلسلات حيث ظن أغلبهم أن لا مجال لقبول مسلسل يروج للانحراف الأخلاقي في شهر رمضان، دون انتظار مشاهدة العمل بالكامل.
وأوضح مؤلف المسلسل لـ”العرب” أن العنوان أثار منذ البداية جدلا وخلافا بينه وبين فريق العمل، فالفنانة روجينا لم توافق على “انحراف” كعنوان للمسلسل وكانت في كل مرة تقترح تسمية العمل باسم ثان، لكن تم الاتفاق أخيرا على المحافظة عليه.
ويقول شهيب “في الأخير تمكنت من إقناعها بأن وراء هذه الكلمة فلسفة كبيرة تختصر فكرة المسلسل بأكمله وتتمثل في انحراف النفس البشرية عن طبيعتها. ففي انحراف النفس انهيار للمجتمع، وحين ينصّب الشخص نفسه مكان القانون، يؤدي هذا الانحراف بالضرورة إلى سلاسل متوالية من الانحرافات، وحين تعالج الخطأ بالخطأ قد تجد نفسك في حلقة مترابطة من الأخطاء والانحرافات السلوكية”.
ويضيف “ظن الناس أن ‘انحراف’ إشارة إلى الانحراف الأخلاقي فهو أمر مرتبط في عقول المجتمعات العربية بالسلوك لكن الإنسان قد ينحرف نفسيا فيقدم على أفعال وتصرفات أشد خطورة من انحرافه الأخلاقي، ولحسن الحظ كان لاسم المسلسل الفضل الكبير في أن يصبح مميزا وسط عناوين المسلسلات المنافسة”.
ومثلما كان العنوان صادما، كانت حكايات المسلسل شديدة العنف والقسوة، ولم يستوعبها العقل البشري لولا أن سمع عنها في نشرات الأخبار وقرأ عنها في صفحات الحوادث، ورغم ذلك اتهم المسلسل بأنه يسرد قصصا كثيرة العنف ولا تتقبلها عين المشاهد في شهر رمضان.
وعن ذلك يقول شهيب لـ”العرب”، “لقد خففت من شدة القسوة في بعض القصص لأن تأثيرها سيكون قويا على المشاهد، فالحكايات الحقيقية أبشع كثيرا، كالقصة الأولى التي بدأ بها المسلسل، هي في الواقع لرجل يخون خطيبته مع أمها، لكنني استبدلتها بزوجة والدها، أما القصة الثالثة والتي تقتل فيها الأم أبناءها بإغراقهم في الماء فقد تم حذف المشاهد العنيفة بناء على طلب الرقابة على المصنفات الأدبية والفنية التي رأت أن شحنة العنف قوية ولا يمكن تمريرها في عمل درامي”.
ويتابع “بناء على ما تابعته من قضايا وجمعته من وقائع حقيقية، صرت متأكدا أن الواقع مؤلم وأكثر بشاعة من الخيال الفني وهذا ردي على من يقول إن المسلسل دموي وعنيف جدا”.
وتعرّض المسلسل منذ بدء عرضه إلى دعوات تطالب بإيقاف عرضه نظرا لمنسوب العنف الكبير الذي يعرضه، ويرى المؤلف أنها “دعوات مضحكة، فبعض الأطباء النفسيون نشروا بيانا استنكاريا ينددون فيه بتشويه المهنة، وصدرت دعوات عن بعض النواب من مجلس الشعب لإيقاف المسلسل، لكن المضحك بالنسبة لي أن حور لم تكن طبيبة نفسية بل مريضة نفسية هربت من المستشفى واستطاعت اختراق المجتمع وإقناعه بشخصيتها الجديدة والاندماج والعيش بين الناس بشكل عادي لا يثير الشبهات”.
ويعتبر شهيب أنه من العبثي جدا أن يستنكر الأطباء المسلسل دون مشاهدته للآخر وفهم القصة، والدليل أن حور تمت محاكمتها في آخر المسلسل عن كل ما قامت به قانونيا ما يعني أن مثل هذه الآراء كانت ظالمة للعمل والحكم عليه كان خاطئا.
وكان جمهور المسلسل يربطون القصص الدرامية بتلك الحقيقية، فيجمعون الأخبار الصحافية التي تسرد الوقائع ويقارنونها بما ورد في حلقات المسلسل، ومنهم من صار ينتقد بعض المشاهد كمشهد قتل حور لعبدالعزيز مخيون قتلا بكيس بلاستيكي، والذي يقول المؤلف إنه لم يكن مبرمجا تجسيده بهذه الطريقة، فحور تقتل الظالم بالطريقة التي ظلم بها الناس، وهنا كانت ستقتله حرقا إلا أنه تم استبداله للضرورة الإخراجية واستحالة تصوير مشهد الحرق في الفندق.
وتصدر المسلسل “الترند” على مواقع التواصل الاجتماعي -رغم ضعف نسب المشاهدة مقارنة بأعمال أخرى- ورغم أنه لم يحظ باهتمام إعلامي واسع.
وتعليقا على هذه المسألة يقول شهيب “الترند صار هو الواقع ويتحكم في نجاح المسلسلات، لكنه نجاح مدفوع الأجر واللي يدفع أكثر للصفحات المأجورة يشتهر أكثر وهو ما انتقدته شخصية حور منذ الحلقة الأولى للمسلسل”.
كانت شخصية حور طوال المسلسل، صريحة وذكية، تنتقد الواقع من حولها وتحلله فتصيب في كل ما تقوله، وتنطق على لسان المشاهد بما يحدث من حوله، فتبدو قريبة منه ومن أفكاره، وتقذف به في دوامة من التناقضات والمشاعر المضطربة.
ويصف المؤلف مصطفى شهيب كواليس كتابته لهذه الشخصية فيقول لـ”العرب”، “وأنا أكتب شخصية حور لم أكن أقصد أن تكون شخصية سوداء ولا خيّرة، بل قصدت أن تكون من لحم ودم، تشبه أي إنسان بيننا وحين يتابعها المتفرج يرى نفسه فيها وفي كل تناقضاتها الإنسانية”.
ويتابع “حور باختصار، شخصية صعب أن تكرهها أو تحبها فهي تفعل الخير بطريقة شريرة، وتفعل ما يرغب الجميع في القيام به فتأخذ حق المظلوم من الظالم، والكثير منا يرغب أحيانا لو ينال ممن ظلمه أو ظلم الناس من حوله بأبشع الطرق إلا أن نفسه السوية نوعا ما والخاضعة لضوابط المجتمع تمنعه من القيام بذلك”.
ويقول شهيب “تعلّقت بشخصية حور وأحيانا كنت أشعر بالتعاطف معها فيما أكرهها أحيانا أخرى، كنت أتفاعل معها وأريدها أن تهرب من العدالة والشرطة قدر استطاعتها، لقد كنت مشفقا عليها وأشعر بأنها ضحية أكثر من كونها مجرمة، في المقابل أحببت جدا شخصية أمير أستاذ الجامعة لأنه قتل ظلما”.
وأضاف المؤلف على الشخصية المحورية في العمل لمساته الخاصة لتبدو واقعية مقنعة، وتظهر في صورة القاتلة المحترفة ذات الأسلوب المميز الذي رمى بها في الآخر في قبضة الشرطة.
وكانت حور تقتل ضحاياها على أنغام موسيقى “تانغو تو إيفورا” الشهيرة، ولطالما تساءل الكثيرون من صحافيين ومشاهدين عن سر الموسيقى، وفي هذا السياق يقول شهيب إن “أرشيفات المحاكم والمصحات النفسية يوضح أن للسفاحين والقتلة عادات وسلوكيات غريبة كأن يقطع سفاح أصابع الناس ويشوه صورة الضحايا عند قتلهم، ولديهم طقوس معينة، ومن ضمن طقوس حور القتل على نغمات الموسيقى، تلك الموسيقى نفسها التي كانت مسببة لشفائها ولولهها بطبيبها المعالج وشغفها القوي بتعلم علم النفس واتخاذها قرار الثأر من كل ظالم نجح في الهرب من العدالة”.
نهاية المسلسل بقيت مفتوحة، فحور (وسام عبدالعزيز) افتعلت حريقا في مستشفى الأمراض النفسية “ماتت فيه” لتبعث من جديد في آخر مشهد بصفتها محامية تتقمص شخصية أخرى وتعد بافتكاك حق أحد موكليها، فهل سنرى جزءا ثانيا من المسلسل؟
يجيب مصطفى شهيب بأنه حاليا لم يقرر بعد أن يكون لانحراف جزء ثان أو يختار تأليف مسلسل آخر لن يحيد في الغالب عن عالم النفس البشرية والجريمة وما تكتنزه من أسرار وغموض، فهو يميل عموما للصدمة في كتاباته لاستفزاز عقل القارئ والمشاهد.
أما عن تقييمه للمسلسل بعين المشاهد والإنسان العادي، فيختتم بالقول “كمشاهد أرى أنه مسلسل جديد على الدراما المصرية والعربية، فأعمال الجريمة النفسية ليست موجودة بكثرة كمسلسلات الأكشن والجريمة الكاملة، والتجربة حققت نجاحا معقولا وتفاعل معها الناس بشكل جيّد، وكلمة السر للنجاح كانت القصص الحقيقية فالناس لم تشعر بأنها تشاهد الجريمة الأجنبية بل هي جرائم تشبه المشاهد المصري والعربي”.