عبد الوهاب معوشي في “ويحدثني الارز”: “أنا كائن من كائنات لبنان القديمة”

النشرة الدولية –

aleph-lam –

باريس-نزهة عزيزي

هو كاتب جزائري تزهر كتابتة الإبداعية حدائق غناء بين عشقه للكتب وحبه للسفر وترحال بين بيروت والجزائر العاصمة، صدرت له عناوين في منشورات الاختلاف  “حبر الغوايات” في  2012 بالجزائر العاصمة “تفكيرات في الجسد الجزائري الجريح” في بداية الالفية الثانية،  ومؤخرا “عندما يحدثني الارز” (2022) عن منتدى المعارف في بيروت .

تعرّفت على حرفه عبر مقال عن صحراء الجزائر، عنونه “اعبر الى صحرائي” فعبر نصه وجداني.

عبد الوهاب معوشي لا يكتب بل يزرع حب ما يكتب في القاريء، ميزة جعلته يتفرّد بلغة خاصة، فهو يرود اللغة العربية وينجو من إفتراس اللغة الفرنسية فيرسم لوحات جمال عابرة للروح كأنه ينقش تحفا بقلم متمرد عاشق للجمال.

كانت لي وقفة معه وعلى إصداره الأخير من بيروت “يحدثني الارز”، فجاء حواري الماتع معه في الآتي:

“بيتٌ حبري”

*عبد الوهاب معوشي من الأقلام الجزائرية المميزة في أسلوبها وطرحها، كيف بدأ شغفك بالكتابة ومتى، وبمن تأثرت؟ 

-شغفي بالكتابة منذ اول الصبوات من خلال جرائد، وكتب كنت أجدها عند والدي وأخي الأكبر. ولدت في “بيت حبري” تسيل فيه الكتابة إن صح لي التعبير. شغفت بالمجلات والصحف في المرحلة الابتدائية. أذكر منها جريدة المساء التي إعتنت بالأدب بشكل خاص، فأحببت جنس المقاله لأنها مساحة للطرح والتفلسف والتفسيرومجاراة اقطاب الأدب الجزائري أمثال طاهر وطار، رشيد بوجدرة، عبد الحميد بن هدوقة، عمارة بلحسن، بختي بن عودة. كانت الكتابة بالنسبة إلي غامضة، أحببت أن افك طلاسمها وغموضاتها، تزامنت مع فترة الانفتاح في أواخر الثمانينات في الجزائر قبل المرحلة الدموية للعشرية السوداء، مرحلة حداثية تنويرية متنوعة، مازلت أرى الاعلامي عبد الكريم سكار يقدم لنا برنامج “تعابير”، الذي كان جديد الطرح ثقافيا على متن باخرة متجهة لكورسيكا. نحن من جيل ولد في رحم التغييب، كنا يتامى في محيط لم يكن يشجع او يصقل قدراتك. كنت عابرا في معارض كتب بميزانية تلميذ علاقتي بالحبر والكتابة غامضة وعميقة وآسرة في الوقت نفسه.

أدب الرحلة

*في أدبك الكثير من الترحال، الترحال بالجسد والكلمة والنص، رغم أنك لا تحب التصنيفات الدينية او العرقية إلا أن حبك للحرية يفوق عشق الامازيغ لها؟ 

-الترحال مذهب ونمط حياة يتجلى في اللبس وثقافة الاكل والاطباق، أنه يبدأ روحيا وجدانيا، أنا لا أحب الثبات انه درجة الصفر للإبداع، أنا أحب تغيير المكان، الهواء حتى لا أجلس إلى الطاولة نفسها. بدأ الترحال مع والدي في الصغر، كان يصطحبني معه إلى مليانة قليعة، دلس، وذاكرتي تكتظ بالامكنة، هي أماكن لا تهب نفسها لأي أحد، هي ملكة ذات مقام لا تبوح بنفسها إلا لمن يعرف أسرارها والتوغل في تفاصيلها. الترحال علاقة روحية اولا وقبل كل شيء. والعين تعشق الجمال في كل شيء. واحب الأشياء التي امارسها السفر أوروبا، المشرق العربي، المغرب، السفر داخل الجزائر القارة، نحتاج لهناك كي نكتب هنا. والسفر منذ القدم ولد أدب الاسفار كجنس أدبي ذاع صيته عالميا. فهو يفتح ليس فقط فكري ولكن لغتي على العالم على الإنسان والانسانية.

“التلبنن” هوّية مميزة

*ما قصة حبك للبنان وكيف إستقر عبد الوهاب لفترة في هذا البلد وكتب عنه؟ 

-أحب لبنان واستقر فيه إستقرارا رمزيا. علاقتي به علاقة رمزية جدا أكثر منها جسدية، أتركه وأعود إليه، أشعر أني من كائناته القديمة، كنت أسافر أليه وارى ندوب الحرب وآثارها على جسده، ولذكرى مقتل الحريري بقايا داخل نفسي. لبنان عاش بداخلي من خلال الكتب، ولما عشت فيه حقيقة سكن فؤادي وروحي. عايشت يوميات قبالة فندق “سان جورج”، درب الروشة، وهي أسطورة لبنان، قابلت شخصيات لبنانية عدة، عامة وغير عامة، هذا الاحتكاك ألهم فيوضات سردية، سرد وحكي، أدب الرحلة الذي يتغذى من الحضور الآسر عبر لوحات مختلفة. كتابي “ويحدثني الارز”، إنه أرز الرب، وهو هبة الرب كما يقول سعيد عقل، وهو من يحرس لبنان. لبنان زج به في صراعات، لكنه يخرج من خنادق القنص إلى ساحات اللعب والعشق والاغاني. “التلبنن” هوية مميزة، وهذا المصطلح يعبّر عن العالمية، لان لبنان لم يغزو اي بلد، لا يعاني من عقدة “الخواجة”، كنت وتحوّلت إلى مواطن عالمي، كما يقول الروائي ربيع جابر “بيروت مدينة العالم” من أورعها وأصدقها.

“ويحدثني الارز”

*بعد “حبر الغوايات” يأتي اصدارك الأخير الذي صدر في لبنان ومنتظر في الجزائر يعيدنا إلى بيروت ولبنان مرة أخرى، حدثني عنه…

هو كتاب سردي لكل ما عشته ورأيته في لبنان هو كتابة وحكي عن أثر مروري وترحالي في هذا البلد المتميز فهو رغم الجرح يغني للحياة ولبيروت جمالها الخاص وسحرها، هو لبنان المحرض على الكتابة، نهلت منه ونهل مني، هو تجربة ذاتية اتقاسمها مع القاريء وربما ادعوه للرؤية بعيني خلال الكتاب. هو دعوة لاكتشاف هويات متعددة لوجه واحد.

سجن إيجابي

*جائحة كورونا حالت دون سفرك، كيف مرت عليك، وهل حرضتك على الإبداع كما فعلت مع أقلام كثيرة؟ 

*الجائحة اوصدت على القلب، تضررت كتابتي بعدم السفر، الركود لم يأت أكله معي، قرأت كثيرا متلازمة العدم كما فعلت في الصناعة والاقتصاد والسياحة والحراك الدولي ودبيب الحقائب في المطارات. كانت فترة سجن إجابي . لحظة فيروس مباغت شرس ومهدد لا نعرفه. بعد طول تأمل كانت الجائحة فرصة للقراءة التأملية، هي متعة وإنضاج وعي تمارين للروح والاكتشافات بداخلنا لنرى الأشياء بطريقة أخرى ربما، مادامت الكتابة هي وظيفة تمرير افكارنا للاخرين.

استبدال الهوّية بالهاوية!

*ما رأيك في الساحة الأدبية الجزائرية اليوم خصوصا مع التهميش الذي يعاني منه الكاتب وركود الثقافة كظاهرة إجتماعية متفاقمة؟

-لا يمكن الحديث اصطلاحا على ساحة أدبية، لأن الساحة هي فضاء ومكان اللقاء الذي يبني نظام تبادلات معارض غاليريهات، دور السينما والنشر، المسارح، نحن في الجزائر اليوم لسنا في ساحة بل سوق غير ثقافي لا ينمي الفعل الثقافي الابداعي، لا يفعل شيئا سوى ثقافة الاستهلاك فيه. نعيش حال ضيق في الرؤى. أين هم المدونون الذين يخلقون النقاش؟ أين المؤثرين أصحاب المحتوى؟ هناك ترويج مادي شرس يلغي الروح، أكل، طبيخ، تدّين مهزوز أجوف هو ترويج للخواء، هناك مسلسل إنغلاق مدمر لحاضنة تراثنا الفكري النضالي الذي خرج من رحم الحركة الوطنية، نستبدل الهوية بالهاوية، فقدنا العلاقة بالذاكرة وقبضنا على الفلكلور، لا يمكن لنا أن نعيش من دون تخصيبها فعبرها ننمو ونستمر.

الخلاصة صعب انقاذ السفينة الثقافية، لكن الاستمرار في الكتابة كشكل من أشكال المقاومة أمام الخواء هو شكل من أشكال المدنية، الاستثمار في المجال الثقافي هو عمل جبار يتطلب سياسات حكومية عميقة استراتيجية، الثقافة ليست طبل ومزمار الثقافة وجبة يومية يجب أن تقدم لاطفالنا في البيت والمدرسة في كل حياتنا اليومية. تشجيع المبادرات الفردية. اذا فشلنا في مشروع ثقافي جماعي، يجب إنقاذ الفرد. مثلا لماذا لا نلتف بكاتب فرح من أجل كتاب، نشرب نخب كتب بعضنا البعض كمثقفين لنصحح سلوكياتنا الثقافية ونؤسس ديتولوجيا المثقف السند، الذهاب بكل أناقة لحفل توقيع كتاب او عرض فني او رياضي. غياب السلوك الثقافي زاد من وحدة المثقف.

أطروحات حارة بنبضها الدموي

*كيف كان أثر العشرية السوداء على كتاباتك ؟

-عن العنف التسعيني وسنوات العمى السياسي والاصولي كانت كسنوات وجودية اشكالية، ففيها انطرح السؤال حول الهوية بشكل كثيف، وفيها تجددت المساءلة حول مشروع مجتمعي ممكن، وفيها ومن خلالها عادت أطروحات كالذاكرة واللغة والموت والحب، أطروحات حارة بنبضها الدموي والتراجيدي…

إن ذلك ما رحت أسائله.. أتأمل فيه .. ابصر في جوانبه الأربعة باحثا عن المعنى في كتابي الأول “تفكيرات في الجسد الجزائري الجريح”.. التفكيرات انكتب في الفترة التي أعقبت سنينا عجافا من اللاإنتاج بسبب إفراغ الساحة من المثقفين والكتاب والسوسيولوجيين، كان ذلك سياقه ومساقه في محاولة تأمل العودة..

*كلمة ختامية. ماذا يمكن أن يضيف عبد الوهاب معوشي ؟

– ليس للكلام من خواتيم إلا أحلاما نظل نروح نغدو نرسمها في سموات المعنى..

الكتابة ليست إلا مسكِّنا بتشديد الكاف وكسرها وسكنى الكائن بتعبير هيدغر.. إنها ٱخر قيد من قيود الخلاص العربي القومي والحضاري لننتقل نحو حضارة المكتوب والمؤرخ والمؤرشف وإلا سيكتب الآخرون موتنا ونهايتنا….

 

زر الذهاب إلى الأعلى