الدعوات المزورة إلى دولة مدنية
بقلم: رفيق خوري

القائلون بها في لبنان ليسوا جميعاً معها وأكثرهم ضدها بالمطلق

النشرة الدولية –

من مفارقات المعركة الانتخابية الأخيرة في لبنان أن الذين استخدموا سلاح العصبيات الطائفية والمذهبية دعوا بعد ظهور النتائج إلى دولة مدنية. ومن الثوابت في لبنان أنه يتقلب بين فصول من الأزمات والتسويات المؤقتة في أزمة بنيوية دائمة. لا حلول من ضمن النظام، ولا حلول من خارج النظام. مشكلة مستعصية. والحل الوحيد الذي ينقذه هو الحل الذي يصعب التفاهم عليه ويستحيل فرضه، مع أن كثيرين يدعون إليه في الخطاب: الدولة المدنية. دولة مواطنة ومواطنين، لا رعاية طوائف ومذاهب وقبائل. دولة ديمقراطية بالفعل، لا بالشكل، لأن الديمقراطية لا تبنى إلا كعقد اجتماعي سياسي بين أفراد لا بين طوائف. حتى قبل أكثر من ألفي عام، فإن أرسطو حدد مفهومه للدولة بالقول “الدولة جماعة مواطنين عاقلين أحرار، لا جماعة مؤمنين”. وفي الدولة المدنية، لا طائفة تحمي فاسداً من أبنائها. لا سلطة من دون مسؤولية. لا مسؤولية من دون محاسبة ومراقبة. لا خطأ يصعب تصحيحه بالنقاش. لا أزمات دائمة من دون حلول، ولا سياسة إلا خدمة المواطنين، لا استخدامهم.

لكن دعاة الدولة المدنية في لبنان ليسوا جميعاً معها، وأكثرهم ضدها بالمطلق. وقمة السخرية أن يطالب بالدولة المدنية من يطلب عملياً دولة دينية ويعمل لها، مثل “حزب الله” ورجال الدين. وبقية الدعاة أشكال وألوان. بينهم من مارس الخداع وبنى الشعبوية بشعار “حقوق الطائفة” ثم تحالف مع حزب ديني كأن الطريق المذهبية أقصر الطرق إلى الدولة المدنية. وبينهم من يعتبر أن الدولة المدنية هي القائمة على إلغاء الطائفية السياسية، أي توزيع السلطة على الطوائف، من دون تجاوز الطائفية إلى المواطنة، بحيث يضمن هيمنة الطائفة الكبيرة والقوية على بقية الطوائف عبر “ديمقراطية العدد” بدل “التعددية”. وهناك من اصطدم بالعجز عن تكريس الهيمنة رسمياً على الرغم من قوته. ومن يزيف مفهوم الدولة المدنية مكتفياً بالقول إنها الدولة التي لا يحكمها رجال الدين مباشرة. ومن يرفض العلمانية فيغطي رفضه بقبول الدولة المدنية كبديل من دون تغيير البنية الطائفية للمجتمع.

ولبنان بالطبع ليس جزيرة، ولا هو النظام الطائفي الوحيد في المنطقة بل النظام المعلن، وسط أنظمة طائفية غير معلنة. لا بل إن بين فقهاء الدستور من يرى أن الدولة في لبنان مدنية، لأن الدستور لا ينص على دين الدولة أو دين رئيسها، خلافاً للحال في المنطقة. أليس أوضح ما كشفته ثورات ما سمي “الربيع العربي” والحروب الأهلية التي قادت إليها أن بلداناً عدة هي في حال “لبنان مستتر”؟ أليس ما تفعله جمهورية الملالي منذ ثورة الخميني هو اللعب على الصراعات المذهبية في المنطقة وتوظيف الأقليات المذهبية في أكثر من بلد عربي في خدمة مشروعها، فضلاً عن تسليح فصائل مذهبية؟ ألم يحاول الرئيس الأميركي باراك أوباما دعم الإخوان المسلمين للسيطرة على السلطة في مصر وليبيا والسودان وتونس وسوريا وسواها، وإقامة توازن بين محور سني بقيادة أنقرة ومحور شيعي بقيادة طهران؟

لبنان يتأثر حتماً بهذا المناخ، فوق ما فيه من قوى طائفية لا دور لها في السلطة لولا النظام الطائفي. وليس من السهل إقامة دولة مدنية في منطقة صراعات وتقاليد طائفية متجذرة تمر حالياً بمرحلة تعاظم الصراعات. فمن جهة حرص إيراني على تصدير نموذج الدولة الدينية إلى المنطقة، دولة رجال الدين و”الحكم الإلهي”، ومن جهة أخرى اندفاع فصائل الإسلام السياسي السني مثل “داعش” و”القاعدة” و”الإخوان” لإقامة دول دينية تحت شعار “الحاكمية لله” لكن الحكم لرجال الدين وزعماء ميليشيات.

وتكراراً، لا أمل للبنان ولا حل إلا بقيام دولة مدنية، لكن الطريق إلى بنائها مسدود بقوة العصبيات والمصالح وسياسات العنف. وهي طغت على الخطاب في معركة الانتخابات النيابية الأخيرة. وليس صحيحاً أن لبنان “خطأ جغرافي” ولا أنه “خطأ تاريخي” كما قال الخائفون من التعددية والديمقراطية فيه. الصحيح أنه بلد تظلمه الجغرافيا، ولا ينصفه التاريخ.

زر الذهاب إلى الأعلى