قصّة لبنان “الحديث” مع نبيه برّي “القديم”!
بقلم: فارس خشان
النشرة الدولية –
لن تُشكّل إعادة انتخاب رئيس “حركة أمل” نبيه برّي، رئيساً للمجلس النيابي اللبناني، بعد غد الثلثاء، مفاجأة لأحد، كما لا يُفترض أن تتسبّب بإحباط أحد، لأنّ العقلية السياسية في لبنان، وإن دخلت عليها بعض التعديلات في السنوات القليلة الماضية، إلّا أنّها، كما بيّنت نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة، نجحت في أن تستولد نفسها، بنسبة كبيرة.
ويُشكّل الرئيس نبيه برّي أحد أبرز نماذج هذه العقلية السياسية اللبنانية التي تتحمّل مسؤولية “ترسيخ” برّي في منصبه لعدد قياسي من السنوات، على الرغم من تناوب أدعياء “الثورات” و”التغيير”!
كيف ذلك؟
لنعُد، سبعة عشر عاماً إلى الوراء، ولنقرأ المشهد الراسخ في التاريخ اللبناني الحديث.
في حزيران (يونيو) 2005، وبعدما انتهت الانتخابات النيابية التي حصلت، للمرّة الأولى، بعد الانسحاب جيش النظام السوري من لبنان، كان يُفترض أن يخسر برّي منصب رئاسة المجلس النيابي، إذ إنّ نتائج هذه الانتخابات أسفرت عن فوز واضح وجلي لـ”قوى 14 آذار” بالأكثريّة النيابية.
كان برّي خصماً حقيقياً وفاعلاً لهذه القوى، فهو لم يكن يُعتبر، في ذاك التاريخ رمزاً من رموز الوصاية السورية على لبنان، فحسب، بل كان، أيضاً لاعباً رئيسياً في مواجهة “القوة التحريرية”، سواء في إنشائه، في مقابل “لقاء البريستول”، “لقاء عين التينة”، أو في مشاركته مشاركة فاعلة، في تظاهرة 8 آذار التي هدفت الى توجيه ضربة قاسية إلى “انتفاضة الاستقلال”.
وكان اللبنانيون الذين ثاروا ضد “الوصاية السورية” على لبنان يُعادون عودة الرمز السلطوي لـ”قوى 8 آذار” إلى رئاسة المجلس النيابي، وشجّعهم على ذلك كلّ من كان يُدرك التقييم السلبي الذي كان قد أجراه الرئيس رفيق الحريري لبرّي والأدوار التي لعبها، قبل أشهر من اغتياله.
وشجّعت عواصم القرار الدولية المعنيّة بلبنان، في حينه، القوى التي حملت اسم أهم يوم شعبي في تاريخ “ثورة الأرز” التي فجّرها اغتيال الحريري، على تغيير برّي.
لكنّ الإرادتين اللبنانية والخارجية سقطتا، واتّحدت غالبية الأكثرية النيابية الجديدة مع غالبية الأقليّة النيابية، وجرت إعادة انتخاب برّي، بأكثرية تسعين صوتاً، فيما حصل النائب في حينه الذي لم يكن قد رشّح نفسه للمنصب نفسه باسم السبع على صوت واحد، ووصل عدد المقترعين بورقة بيضاء إلى 37 صوتاً.
كثيرة هي المبرّرات التي رفعتها “قوى 14 آذار” لترسيخ برّي، في عام 2005 على كرسي “الرئاسة الثانية”، وكان أبرزها على الإطلاق أنّ برّي هو مرشّح “الأكثرية” الشيعيّة، وتالياً لا يمكن “بناء لبنان الجديد” إذا ما جرى تحدّي هذه الأكثرية التي لا بدّ من محاورتها لحلّ ما يواجه لبنان من مشكلات وتحدّيات.
ولم تكن حصيلة الولاية الرابعة لبرّي في رئاسة مجلس النوّاب إيجابية، إذ إنّها، بعدما انطلقت في “حوار وطني”، بقيت كلّ قراراته حبراً على ورق، انتهت، بطريقة كارثية.
حينها، خرج “حزب الله” الذي كان ممثّلاً بأمينه العام حسن نصر الله من “الحوار” وذهب، مستخفّاً بتحذيرات “محاوريه” من مغبّة أيّ عملية عسكرية على الحدود الجنوبية، إلى إعطاء ذريعة لإسرائيل لشنّ حرب تموز (يوليو) 2006.
وحين انتهت هذه الحرب التدميرية، ارتدّ “حزب الله”، بالتعاون مع برّي، ضد الداخل اللبناني، فكان إقفال مجلس النوّاب، والخروج من الحكومة اللبنانية، وتنظيم اعتصام مفتوح في وسط بيروت، قبل أن يقود ما سُمّي بـ”غزوة” السابع من أيّار (مايو) 2008، وكلّ ذلك على خلفية الحيلولة دون تشكيل “المحكمة الخاصة بلبنان”، بداية وحماية “سلاح المقاومة”، لاحقاً.
وعلى الرغم من هذه النتائج التي انتهت إليها ولاية برّي الرابعة، إلّا أنّ القوى السياسية نفسها، أعادت انتخابه لولاية خامسة، بعد انتخابات عام 2009 التي أعطتها، للمرّة الثانية على التوالي، الأكثرية النيابية الواضحة.
وقد حصد برّي في هذه الانتخابات تسعين صوتاً، فيما حصلت الورقة البيضاء على 28 صوتاً والنوّاب الشيعة غير المرشحين لهذا المنصب على: ثلاثة أصوات لعباس هاشم، وصوت واحد لكلّ من غازي يوسف وعقاب صقر.
وكان المبرّر الذي ساقته هذه القوى لإعادة انتخاب برّي أنّها تحتاج، في ظلّ احتدام الخصومة مع “حزب الله”، إلى محاوِر موثوق به من الطائفة الشيعية، وليس هناك سوى برّي ليقوم بهذه المهمة.
وفي عام 2018، وقد انقلبت الأكثرية إلى الضفّة المؤيّدة لبرّي، لم تُطرح إعادة انتخابه كإشكالية، وهذه السنة أيضاً، بعد صدور نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة التي تميّزت بـ”تلاشي الأكثريات”، جرى تغييب هذه الإشكالية على قاعدة أن لا وجود لمنافس لبرّي، إذ إنّ “الثنائي الشيعي”، ولو كان قد خسر الأكثرية التي حصدها وحلفاءه في عام 2018، إلّا أنّه “أقفل” لمصلحته التمثيل النيابي الشيعي.
وكان يمكن لرافضي “فرض” برّي لولاية هي السابعة على التوالي، لو كانوا جادين في إحداث التغيير، أن يفتحوا حواراً في ما بينهم، من دون حاجة إلى تشكيل أيّ جبهة سياسية دائمة، من أجل أن يبحثوا في السبل التي تُعينهم على أن لا يبدأوا ولايتهم النيابية الجديدة، من حيث بدأت تلك التي انتهت إلى فشل ذريع وإلى نتائج… مرعبة!
ولكنّهم لم يفعلوا. لقد استسلموا، مبكراً جداً، للمنطق نفسه الذي انتهجه من سبقوهم، بحيث يُعاد انتخاب برّي، وفق المعادلات القديمة التي سوف تنتهي إلى ضخّ الحياة في النهج نفسه الذي سبق أن أغضب اللبنانيين وساهم في وصولهم إلى المأساة التي يتخبّطون فيها.
وبدل أن تفرض القوى النيابية التي تزعم رفض إعادة انتخاب برّي، “أجندة” على “الثنائي الشيعي” حتى يحق له أن يسمّي نفسه “الثنائي الوطني”، ألهت الرأي العام الذي انتخبها، بصراع على منصب يكاد أن يكون “وهمياً” لخلوّه من أيّ صلاحية فعلية، اسمه: نائب رئاسة مجلس النوّاب!
لقد لعب برّي، منذ عام 2005 حتى عام 2018، أدواراً حاسمة ضد القوى المناوئة لـ”حزب الله” في لبنان، فهو، ومهما أسرّ به من شكاوى في الغرف المغلقة، ينفذ دائماً، خطط الحزب بحذافيرها ويشاركه بفاعلية في تنفيذها.
وقد أدّت هذه الأدوار التي تولّاها برّي إلى إفشال “ثورة الأرز” وإحباط جماهيرها، وإلى انحلال تحالف قوى 14 آذار الذي بدأ مساره “الاهترائي” في ذاك اليوم الذي أعيد فيه انتخاب برّي في عام 2005، لأنّه أصاب “بالضربة القاضية” القوى والشخصيات الشيعية التي شكّلت، حتى قبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ركناً أساسياً في صرح “انتفاضة الاستقلال”.
إنّ التحدّي الذي يبرز، حالياً، مع “حتمية” إعادة انتخاب برّي للولاية السابعة، هو أن لا يُلحق النهج الذي سوف يعتمده، أضراراً جسيمة مماثلة لتلك التي كان قد ألحقها بـ”قوى 14 آذار”، بـ”قوى التغيير” التي دخلت إلى المجلس النيابي على حصان “ثورة” 17 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2019.
وليس سراً أنّ برّي إذا كان خصماً “ثعلبياً” لقوى 14 آذار، فهو سيكون خصماً “عنيفاً” لقوى التغيير، كما أظهر أداؤه في إحباط “ثورة” 17 تشرين الأوّل (أكتوبر) وإدارة حملة الترويع في دائرة الجنوب الثانية، على سبيل المثال لا الحصر.
إنّ التمكن من تجاوز الفِخاخ التي سوف ينصبها برّي، بالتنسيق الكامل مع “حزب الله” لكلّ من قوى التغيير والقوى المناوئة للهيمنة الإيرانية، هو التحدّي الحقيقي، إذ إنّ إعادة انتخاب برّي، هذه المرّة، ولو كانت “قدراً”، تفترض أن لا تؤسّس لمسار من شأنه أن يكرّر ذلك، بعد أربع سنوات، سواء أكان الاسم “المفروض” هو نبيه برّي أو شبيهاً به!