“فيروز” نجلاء أبو جهجه المقاوِمة

النشرة الددولية –

“النهار” اللبنانية – مارلين سعاده –

من ميادين الحرب حيث انطبعت مسيرتها النضاليّة في عالم الصحافة بسعيها الدؤوب لمتابعة الأحداث ومآسي الناس، وتوثيقها بالصورة، لإيصال صدى صوت المقهورين والمتألّمين، ومعاناتهم، إلى أبعد مدى، معرِّضة حياتها للخطر، تمامًا كما الجندي، تركض تحت القصف ورصاص القنص، بين المصابين والقتلى، على الطرقات، وداخل الأبنية المدمَّرة، أو خيم المهجّرين، وحتى في البراري والحقول الوعرة… استطاعت أن تكون في قلب الحدث، متحدّية الخطر والموت، ناقلة إلى العالم أجمع ما نتج عن استهداف طائرة إسرائيليّة، في قرية المنصوري- قضاء صور، لسيارة إسعاف كانت تقلّ عائلة مسالمة، فذهب ضحيّة الاعتداء نساء وأطفال أبرياء.

لقد وثّقت بالصور وحشيّة هذا العدوان، وظلم المعتدين؛ ولم يجرّدها ما تعرّضت له من مشقّات وأهوال من أنوثتها وإحساسها المرهف، فأنزلت سلاحها الأوّل – الكاميرا عن كتفها، وانتقلت من ميدان الحرب إلى ساحات الفنّ لتلاقي الثلاثي: #فيروز والرحبانيَّين، مكتفية بسلاحها الثاني- قلمها، تخطّ به ملامح الدروب التي سارت عليها فيروز.

في كتابها “فيروز” الصادر عن دار زمكان، الطبعة الأولى 2022، تعيدنا #نجلاء أبو جهجه إلى ماضي فيروز أو نهاد ابنة وديع حدّاد وليزا البستاني، المولودة في الدبّيّة في 21 تشرين الثاني 1935، لترشدَنا إلى خطواتها الأولى في عالم الغناء، بدءًا من كورال الإذاعة اللبنانيّة حين اكتشفها الملحّن محمّد فليفل خلال جولته على المدارس بحثًا عن أجمل الأصوات، وإعجاب حليم الرومي رئيس القسم الموسيقي في الإذاعة حينها بصوتها، وإطلاقه عليها اسم فيروز، وصولًا إلى لقائها في الإذاعة نفسها بعاصي الرحباني الذي طلب منه الرومي أن يلحّن لها الأغاني؛ ثمّ زواجها منه. كما تنقل لنا مسيرتها الفنّيّة مع الرحابنة في المسرح، وفي نطاق الأفلام السينمائيّة حيث مثّلت ثلاثة أفلام، وافتتاحها مهرجانات بعلبك ودمشق… وهكذا دخلت فيروز عالم النجوميّة، بل جذبته إليها من دون أن يجذبها أو يأخذ شيئًا من طبيعتها الوديعة الهادئة والخجولة؛ “يا الله هديك البنت!” (كما تقول عن نفسها) بقيت فيروز في نظر ذاتها تلك “البنت” الطفوليّة، الطبيعيّة، التي لا تُحسن لبس الأقنعة؛ فيروز الصبيّة الهادئة، والمغنيّة الرقيقة والجبّارة في آن، والزوجة التي تعاني بصمت من غيرة زوجها، والأم الحريصة على تربية أولادها وتأمين الأفضل لهم، وإن اضطرّتها ظروف العمل إلى الابتعاد عنهم معظم الوقت؛ فيروز المضطهَدة، بعد رحيل عاصي، من أقرب المقرّبين، والتي لم تتوقّف عن التحليق والتغريد حتى بعدما انكسر جناحها الأيمن وتركها رفيق العمر تحارب وحيدة.

هذه هي صورة فيروز التي تُبرز لنا نجلاء أبو جهجه ملامحها، تدعّمها بالعديد من الصور، بالأبيض والأسود، تختصر فيها مراحل من تاريخها الفنّي الطويل؛ فقد حرصت في افتاتحيّتها التي عنونتها “الصوت الذي صار وطنًا”، على أخذنا في هذه الرحلة مع فيروز، متوجّهة إلى كلّ من سينضمّ إلى رحلتها بالقول: “ستسافرمع كلّ أغنية نحو مطارات لا مدارج لها، في بلدان معلّقةٍ على الغيم”. (ص7)

تطالعنا في بداية الكتاب كلمة لأنسي الحاج، اعتمدتها أبو جهجه لتكون “بمثابة مقدّمة”، كما أسمتها، مؤكّدة من خلالها أنّ من يمكنه أن يتحدّث عن فيروز لا بدّ أن يكون علَمًا بارزًا ليس في عالم الفكر فحسب، وإنّما في الشعر والحداثة والرقيّ والتميّز، ليخبرنا عنها بشفافية وشاعريّة وصدق. يقول أنسي الحاج: “غناء فيروز لا يتشنّج، لا يعلو صراخها… لا يعرض عضلات. أغلبه هَمْس، بوحٌ من حنجرةٍ إلى وجدان، دفءٌ غامرٌ بلا لَهَب التظاهر، هو لَهَبُ السكوت، صوتُ ماسٍ مائيّ… صوتٌ يحمل البحر كما يحمله الهواء، ويغمر الجبل كما يغمره القمر والغيم، ويعيد تشكيل الطبيعة بلمسة الملاك الحارس”! (ص 11-12)

حين نقرأ عناوين الفصول نجدنا أمام مخطّط بسيط يلخّص مراحل حياة فيروز الخاصّة ومسيرتها الفنيّة، مستهلّة بعنوان “بداية التكوين”، منتقلة إلى فصل عن “الخصوصيّة في صوتها”، يليه فصل “الأخوان رحباني” حيث تضيء أيضًا على تاريخهما، لتنتقل بعدها للحديث عن “فيروز وفيلمون وهبي”، ثم “عن فيروز وزياد”؛ وتنهي بتوجيهنا نحو “الفضاء الفيروزي” كما تراه. لكن، بين الفصل والفصل، لا يخفى علينا الاهتمام الكبير الذي توليه نجلاء أبو جهجه لمواقف فيروز أو “ميولها السياسيّة” التي اعتبرتها أحد أسباب خلافها مع ابنها زياد، ذلك أنّه أعلن جهرًا، كما تشير، عن انحيازها لخط المقاومة- وفق تعبير أبو جهجه- علمًا أنّ فيروز “لم تظهر على وسائل الإعلام للتصريح بأيٍّ من تلك المواقف” (ص 38)! كما تتوقّف أبو جهجه عند عدد من المحطّات خلال مسيرة فيروز الفنّيّة، لتضيء على ما أحيته من حفلات في أماكن لها طابعها الخاصّ، كالحفلة التي أحيتها سنة 1976 في بغداد، وما رافقها من “جولة على المراقد المقدّسة في النجف، فزارت أضرحة أئمّة الشيعة”، مشيرة إلى ارتدائها وشاحًا كالذي ترتديه حين ترتّل في الكنيسة، مضيفة أن ابنها زياد الذي رافقها في تلك الجولة قال: “أنّ والدته قد شعرت بحالة روحيّة عالية، فبقيت في الداخل أكثر من الوقت المتوقَّع بكثير.” (ص78) ولا تخفى المسافة الزمنيّة بين حفلة فيروز في بغداد وتاريخ بروز المقاومة؛ علمًا أنّ فيروز غنّت في العديد من دول العالم، ولم يكن حينها ابنها زياد في عمر يسمح له بمرافقتها ونقل ما اختلج في نفسها عند زيارتها تلك الأماكن؛ إضافة إلى أنّها- كما ذكرت أبو جهجه- غنّت الأغنية الفرنسيّة والانكليزيّة، والتراتيل الدينيّة باللغة اليونانيّة (ص 46)؛ والكل يذكر دمعتها المنهمرة عند غنائها “بحبّك يا لبنان” في حفل الأولمبيا، كما عند إنشادها ترنيمة الآلام في الجمعة العظيمة. فما تمّ التركيز عليه في هذه السيرة من أخبار تتعلّق بالشيعة بشكل خاص، إنّما يشير إلى هذا التعلّق الكبير بسفيرتنا إلى النجوم، ورغبة الكاتبة في جعلها من خاصّتها، وهو ما يحصل عادة حين يتسابق الناس لنسبة شخص بارز ومميّز ومحبوب من الجميع إلى عشيرته وقومه.

عن صوت فيروز تنقل لنا أبو جهجه عددًا من الآراء لموسيقيّين ونقّاد بارزين،مثل: كمال النجمي، سليم سحاب، علا نجمي… وممّا صرّحت به هذه الأخيرة قولها: “لو وضعناها (أي فيروز) في مقارنة مع كوكب الشرق أم كلثوم، سنجد أنّ فيروز هي المنافس الأوّل لها، حيث تستطيع أم كلثوم أن تصل إلى قرارات أعمق من فيروز بدرجة أو درجتين، فيما تتفوّق جارة القمر على كوكب الشرق في الطبقات العالية” (ص 60). كما تتوقّف عند الأعمال المسرحيّة التي قدّمتها، موضحة: “تناول مسرح الرحابنة وفيروز مختلف هموم الشعب اللبناني: البحث عن الحرّيّة والعدالة، هجاء فساد الملوك والطبقات (كذا) العليا، تمجيد العلاقات الإنسانيّة النبيلة، بعث نماذج تاريخيّة من الشخصيّات اللبنانيّة في إطار معاصر، يعكس ما هو جديد من الهواجس الراهنة للّبنانيّين.” (ص 69) مضيفة في موضع آخر: “صوت فيروز يقدّم الأغنية اللبنانيّة  في إطار تعبيري باهر، وصياغات موسيقيّة تطلّ على ما هو أقرب إلى الابتهال، والمناجاة العقلانيّة النبيلة.” (ص 72) وتختم بالقول: “كانت فيروز ظاهرة استثنائيّة  فرضت نفسها على الغناء العربي. مطربة كبيرة في زمن الكبار وشديدة التميّز. وكانت  إلى جانب أم كلثوم واحدة وحيدة في العالم العربي. حتى أنّ عبد الناصر كان يعتبر أنّ ظهورها في لبنان هو خطأ تاريخي بحق مصر”! (ص88)

تسترجع أبو جهجه في إصدارها عددًا من الأغنيات الفيروزيّة الآسرة، ناقلة لنا آراء عدد من كبار الباحثين الجامعيّين والموسيقيّين (فواز طرابلسي، أسعد قطان، سليم سحّاب…) مضيئة من جديد، ومن خلال فيروز، على القضيّة الفلسطينيّة والمقاومة، وهو الأمر الذي يظهر جليًّا في مواضع عديدة من الكتاب.

يسحرنا الأسلوب في تفسير وتحليل معاني وأبعاد أغنية “الله معك يا هوانا” (ص 110-111)، ولكن تتداخل الأصوات فنعجز عن تحديد مصدر هذه الأفكار، أهو صوت الكاتبة صاحبة الإحساس المرهف، أم هو صوت النقّاد والجامعيّين الذين قرأت لهم؟ نشعر أنّنا أمام عملٍ بحثيّ، ونتساءل لمَ لمْ تُضمِّن الكتاب بثَبْت للمصادر والمراجع؟!

وكما خصّصَت الكاتبة فصلًا للأخوين رحباني، وفصلا لزياد الرحباني، كونهم الفلك الذي دارت فيه فيروز خلال مسيرتها، نجدها تخصّص فصلًا لفيلمون وهبي، ليكون بدوره كوكبًا يدور في فلك فيروز ويشع، يعطيها ألحانه البديعة فتحلّق بها وترفعنا معها إلى أعلى السماوات، فلقب سفيرتنا إلى النجوم لم يأتِ من عدم، إذ تمكّنت فيروز بصوتها الاستثنائي وإحساسها الراقي، أن ترفعنا معها نحو النجوم.

“فيروز” نجلاء أبو جهجه التي تصنّف نفسها مقاوِمة، كتابٌ يكشف لنا الكثير عن تاريخ فيروز؛ قد يكون طغى عليه الطابع الخاصّ بالكاتبة، إلّا أنّ فيروز تبقى- رغم ذلك- الأيقونة، صاحبة المقام الرفيع التي لا يمكن إلّا أن نحبّها جميعنا، وندّعي- كلٌّ من جهته- أنّها من خاصّته، في حين أنّها ستبقى النجم الذي لا يُطال والذي لا ينطفئ، يُشعّ باستمرار ليضيء دروبنا جميعًا، ويؤنس سهراتنا مؤجّجًا فينا الحنين.

زر الذهاب إلى الأعلى