تجدد أزمة الحدود البحرية اللبنانية إلى أين؟
بقلم: سنية الحسيني
النشرة الدولية –
هناك تحولان هامان يوجهان تصاعد الأزمة الإسرائيلية اللبنانية الأخيرة على الحدود البحرية في المناطق الاقتصادية المتنازع عليها بين البلدين، يتعلق الأول بتصريحات رئيسة المفوضية الأوروبية، يوم الثلاثاء الماضي حول رغبة الاتحاد الأوروبي بتعزيز تعاونه مع إسرائيل في مجال الطاقة، بينما يرتبط الثاني بتفاقم الأزمة الاقتصادية اللبنانية، دون وجود أفق داخلي للحل، في ظل الكشف عن التحرك الإسرائيلي لاستخراج الغاز من المنطقة الاقتصادية المتنازع حولها بين البلدين. وتحركت لبنان نحو المفاوضات مع إسرائيل العام ٢٠٢٠ بعد انفجار مرفأ بيروت، بينما جاء التحرك الحالي لإحيائها في ظل تطورات الأزمة الاقتصادية والسياسية اللبنانية المتفاقمة.
ويعد هذا التحرك الإسرائيلي الأخير في البحر المتوسط لاستخراج الغاز، المحرك للمياه الراكدة ولجمود المفاوضات التي توقفت العام الماضي، في ظل استمرار الحرب الروسية الأوكرانية وتصاعد تبعاتها على أوروبا بشكل أساسي وعلى العالم بشكل عام، وارتفاع حدة التوتر بين الولايات المتحدة والصين، واستعار حرب الظل بين إسرائيل وإيران، ومساندة الدول الغربية للموقف الإسرائيلي على حساب الإيراني، الذي انعكس في قرار وكالة الطاقة الذرية الأخير. ورغم ذلك يبدو أن تصاعد الأزمة اللبنانية الإسرائيلية الأخيرة الخاصة بالحدود البحرية بعيدة عن التصعيد العسكري بين البلدين، رغم تصريحات حزب الله النارية الأخيرة، اذ لا يخرج الموقف اللبناني عن محاولة لاستخدام الحاجة الغربية لاقحام إسرائيل في معركتها مع روسيا فيما، يخص الجزء الخاص بالطاقة، للضغط على الولايات المتحدة لتحصيل مكاسب اقتصادية سواء على صعيد رفع العقوبات الأميركية على كيانات وشخصيات لبنانية والمفاوضات مع صندوق النقد الدولي، او على صعيد المفاوضات مع إسرائيل، خصوصاً فيما يتعلق بحقل قانا وفتح المجال لـلبنان لاستخرج الطاقة من حقوله البحرية المتنازع عليها، والاستفادة من معركة الطاقة المستعرة في العالم اليوم. ويعاني لبنان من عدم ترسيم الحدود البرية والبحرية مع إسرائيل، ما يضع مساحات بحيرة واسعة ضمن فئة “أراضٍ متنازع عليها” الأمر الذي يعيق الاستفادة من موارده للطاقة على وجه الخصوص. وكشفت العديد من التقارير المتخصصة أن لبنان قد يصبح الدولة العربية الثالثة من حيث إنتاج الغاز، إذا تجاوز عقبات النزاع الحدودي مع إسرائيل.
غادرت السفينة التابعة لشركة انرجين اليونانية ميناء سنغافورة الشهر الماضي، ووصلت وهي تحمل منصة عائمة لإنتاج الغاز الطبيعي المسال وتخزينه، في الخامس من الشهر الجاري إلى “حقل كاريش”، الأمر الذي يسمح باستخراج الغاز منه خلال الثلاثة أشهر القادمة. ويقع مقر شركة السفن أنرجين في لندن، بينما تقع مسؤولية الحفاظ على أمن السفينة البريطانية اليونانية على إسرائيل، والتي أعلنت أن أي اعتداء على السفينة يعد بمثابة إعلان حرب. وجاء موقف إسرائيل رداً على التصريحات النارية التي أطلقها حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله بعد خمسة أيام من وصول السفينة اليونانية إلى حقل “كاريش”، والذي اعتبر أن قوات الحزب قادرة على منع إسرائيل من استخراج الغاز، ودعا السفينة اليونانية للمغادرة. الا أن الأزمة لم تبدأ مع وصول السفينة اليونانية البريطانية، وإنما قبل ذلك بكثير. فأكدت وزارة الطاقة الاسرائيلية أنه تم الانتهاء من أعمال الحفر في الحقل، قبل عدة أشهر، معتبرةً أن وصول السفينة بهدف ربط الحقل عبر انابيب في المنصة لتصل إلى سواحل مدينة حيفا التي تبعد ٨٠ كيلو متراً عن حقل كاريش. ووقعت إسرائيل في شهر آذار الماضي اتفاقية مع شركة كهرباء إسرائيل للبدء باستلام الغاز من حقل كاريش لتغذية سوق الكهرباء الإسرائيلية ابتداءً من شهر آب المقبل. كما وقعت إسرائيل مع الشركة المصرية للغاز الطبيعي مذكرة تفاهم لشراء وبيع الغاز لمدة عشر سنوات من حقل “كاريش”. وبدأ ذلك المشروع نهاية العام ٢٠١٦ عندما تم الاتفاق على عمل “إنرجين” في حقل “كاريش” وحقل آخر، ووقّعت الشركة عقداً تمويلياً في العام ٢٠١٨ بأكثر من مليار دولار لتطوير الحقلين. وفي العام التالي بدأت الشركة بالتنقيب عن الغاز في “كاريش”، وبعد التأكد من وجود ٦٧ مليار قدم مكعب وقعت الشركة عقداً لربط الأنابيب الإسرائيلية، وأعلنت “إنرجين” أن تقييمها لاحتياطيات حقل “كاريش” كشف عن ١.٢ تريليون قدم مكعب من موارد الغاز الطبيعي القابلة للاستخراج، بالإضافة إلى ٣٤ مليون برميل من النفط الخفيف، بزيادة كبيرة عن تقديراتها الأولية.
أبلغ المسؤولون اللبنانيون، خلال الأسبوع الجاري، آموس هوكشتاين الوسيط الأميركي لمفاوضات ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، برغبتهم باستئناف المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل، وتمسكهم بالوساطة الأميركية، ورغبتهم برفع الضغوط عن الشركات الأجنبية للتنقيب في المناطق الاقتصادية البحرية اللبنانية. ورغم عدم تطرقه للحديث عن حقل “كاريش”، اعتبر نبيه بري رئيس مجلس النواب اللبناني أن تحركات إسرائيل الأخيرة في حقل “كاريش”، في موقع قريب من المنطقة المتنازع عليها تمثل اعتداءً. وبين لبنان وإسرائيل مناطق متنازع عليها تبلغ مساحتها ٨٦٠ كيلو متراً مربعاً، ومعروفة باسم “بلوك ٩”، وذلك حسب الخرائط التي أودعها لبنان لدى الأمم المتحدة عام ٢٠١١. وتراجعت لبنان بعد ذلك عن تلك المساحات خلال المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل، والتي انطلقت في شهر تشرين الأول من العام ٢٠٢٠، برعاية الأمم المتحدة ووساطة أميركية، وتوقفت بعد خمس جولات تفاوضية في أيار من العام الماضي، بعدما طالبت لبنان بزيادة تلك المساحة المتنازع عليها بين البلدين مضيفة ١٤٣٠ كيلو متر مربع أخرى للمناطق السابقة، وفق خرائط جديدة قدمها الجيش اللبناني. ومنذ ذلك الوقت، أبدت لبنان رغبتها بالتفاوض على أساس الخط ٢٩، الذي يضم حقل كاريش، بدل الخط ٢٣، وباتت المساحة التي تطرحها لبنان كمناطق متنازع عليها ٢٢٩٠ كيلو متراً مربعاً. الا أن الرئيس اللبناني لم يوقع حتى الآن تعديل المرسوم رقم ٦٤٣٣، الذي يفيد رسمياً بمطالب لبنان الجديدة سابقة الذكر، وفي المقابل تصاعد الحديث عن مطالب لبنانية تكتفي بالحصول على المنطقة التي تقع شمال الخط ٢٣، بما فيها حقل قانا كاملاً، ورفعت مطالباتها من ٨٦٠ كيلومتراً مربعاً إلى نحو ١٢٠٠ كيلو متر مربع، والتي لا تتضمن حقل كاريش.
وتعود الحدود المعتمدة بين البلدين حتى الآن، في ظل سيادة حالة حرب بين البلدين وعدم اتفاقهما على ترسيم الحدود بينهما، إلى ما تم ترسيمه في اتفاق وقف إطلاق النار الذي أبرم في العام ١٩٤٩ والذي استند إلى الحدود الانتدابية التي أقرتها بريطانيا وفرنسا في العام ١٩٢٣. واستند ما عرف بالخط الأزرق في العام ٢٠٠٠ لترسيم الحدود إلى الحدود الانتدابية. واجه الخط الأزرق الذي أشرفت على ترسيمه الأمم المتحدة صعوبة عدم وجود تعريف واحد متفق عليه للحدود سواء بين بريطانيا وفرنسا، أو إسرائيل ولبنان بسبب قدم الخط، ولكونه رسماً على خارطة قديمة وصغيرة الحجم تعاملت بعمومية ودون تدقيق مع المناطق الجغرافية المتداخلة والقرى والأودية والطرق، وهو ما ترك ١٣ نقطة خلافية مازالت معلقة حتى الآن. تواجه الحدود البحرية المعضلات المعقدة ذاتها في التعريف والاتفاق على نقطة القياس وأدواته، لارتباطها في الأساس على الحدود البرية. من جانبها اعتمدت إسرائيل في تحديد حقوقها الاقتصادية الحصرية في هذه الحقول على اتفاقيات ثنائية وقعت بين مصر وقبرص في العام ٢٠٠٣، وبين لبنان وقبرص في العام ٢٠٠٧ والتي بناء عليها وقعت اتفاقاً ثنائياً بينها وبين قبرص في العام ٢٠١٠.
وجرى أمس توقيع اتفاقية لتصدير الغاز إلى أوروبا بين الاتحاد الأوروبي ومصر وإسرائيل، في إطار توجه عام من قبل الاتحاد الأوروبي لتوقيع صفقات لتصدير الغاز إلى القارة الأوروبية، مع عدد من الدول بينها إسرائيل. يأتي ذلك في ظل الإعلان عن أن شحنات الغاز الطبيعي الروسي عبر خط أنابيب “نورد ستريم” تحت بحر البلطيق إلى أوروبا ستنخفض بنحو ٤٠٪ خلال العام الحالي. وأفادت وزارة الطاقة (الإسرائيلية) انها بصدد بيع الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا، والذي سيتم نقله في البداية عبر خط أنابيب إلى مصر لتسييله. الصفقة ستعزز تحالف الطاقة في شرق البحر المتوسط المدعوم من الولايات المتحدة، والذي تعتبر إسرائيل، التي استغلت بالفعل حقول الغاز في مياهها البحرية، مشاركاً رئيسيًا فيه. وعلى الرغم من أن تصدير الغاز الإسرائيلي إلى مصر، وتسييله في مصنعين لإسالة الغاز، ثم إعادة شحنه إلى أوروبا باهظ الثمن وليس هو الخيار الأمثل، إلا أن الأوروبيين مستعدون للتغاضي عنها في سبيل الخروج من أزمتهم، وإسرائيل تنجح في تحقيق مكاسب من هذه الأزمة الممتدة، فهل ينجح لبنان في تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية؟