دلالاتُ وتقنياتُ البوح في ‘الأيامُ شَهوتُنَا المُؤجلَة’

نصوص تملك مقدرة خفية على الجاذبية والاختراق

النشرة الدولية –

ميدل ايست اون لاين – يونس شعبان الفنادي –

بعض النصوص الأدبية والشعرية تملك مقدرة خفية على الجاذبية والاختراق وكأنها خلطة سحرية تأسر القاريء وتطوقه بفضاءاتها المتعددة، فيصبح يدور في فلكها أسير أقدار سطورها المتتابعة، غير مبالٍ بعددها وطول أنفاسها ومسارات موضوعها، والتي تُفشِل كُلَّ محاولاته للإفلات منها أو تجاوزها، لأنه مع كل سطر يغوص مزيداً في أعماقها غارقاً ومتأملاً مضمون فكرتها وهائماً في إيقاعاتها ودرجاتها المتعددة ومنبهراً بها.

 

من بين تلك النصوص الجميلة ما نشرته الشاعرة التونسية ريم قمري الثلاثاء الموافق 26 أبريل/نيسان 2022 على صفحتها في موقع الفيسبوك دون أن تجعل له عنواناً أو عتبة أولى تتيح للقاريء أن يهتدي بها للولوج لمتن النصّ، باعتبار أن العنوان هو غالباً المفتاح والبوابة الأساسية للتعرف على المضمون وذلك لما يمثله من أهمية تؤسس دلالة لغوية استعارية أو مجازية تهيء قراءة متن النصّ من زوايا مختلفة، وتفكك بعض هيكله الإنشائي ونسقه التعبيري.

 

ونظراً لغياب العنوان استسمح الشاعرة في اختيار السطر الافتتاحي الأول للنصِّ وهو “الأيامُ شَهوتُنَا المُؤجلة” ليكون عنواناً لمطولتها، حيث رأيته نصّاً مُصَغَّراً (Micro-Text) كما يطلق عليه الفيلسوف الألماني “تيودور أدورنو Theodor W. Adorno” يحمل إيحاءاتٍ شعريةً ذات عدة أصوات ودلالاتٍ عامةٍ وشاملةٍ، مباشرةٍ وغيرِ مباشرةٍ، تضع القاريء أمام دروب ومسارب وتخمينات فكرية متباينة الأوجه لاقتياد بوصلة قراءته الاستشفافية أو التفكيكية للنصّ بكل ما يكتنزه من شحنات عاطفية وتساؤلات فكرية جسدتها المطولة في بانوراما تعبيرية رقيقة.

 

أولاً: التعريف بالمطولة:

 

تتكون مطولة “الأيامُ شَهوتُنَا المُؤجلة” من  مائتي وثمانيةٍ وعشرين سطراً وزعتها الشاعرة على خمسة مقاطع متفاوتة في طولها ومساحتها التعبيرية بحيث جاء المقطع الأول وهو أطولها في  مائتي وثلاثة سطور، والثاني في  خمسة سطور، والثالث في  تسعة سطور، والرابع في  خمسة سطور، والخامس والأخير في ست سطور، وظهرت هذه المقاطع مفصولة بعدة نقط صغيرة متجاورة حد الالتصاق مما يشي بوحدة تلك المقاطع الخمسة وارتباط كيانها ببوح الشاعرة المتدفق والمتماسك في المعمارية النصية(2) وهو مصطلح الأديب الفرنسي ” جيرار جينيت Gérard Genette” الذي يعني به البناء الهيكلي والمضموني الذي تتحدد من خلاله جنسية النصّ أو نوعيته.

 

والشكل المعماري لنصّ “الأيامُ شَهوتُنَا المُؤجلة” يدل على أنه ينتمي لقصيدة النثر وهي جنس حداثوي تعرِّفه الشاعرة والناقدة الفرنسية “سوزان برنار Suzanne Bernard” في كتابها “قصيدة النثر”(3) بأنَّه (قطعةُ نثرٍ موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور. وخلقٌ حرّ، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجًا عن كلِّ تحديد، وشيء مضطرب، إيحاءاته لا نهائية)(4)، وهو تعريف يتضمن كل خصائص قصيدة النثر التي مثلت تطوراً في المسيرة الشعرية الإنسانية بتجاوز القوافي والبحور العروضية وكل أشكال المضامين التقليدية الكلاسيكية، ومنحت القصيدة فضاءات رحبة تحتضن الكثير من أنماط التعبير النثري.

 

وبرز الغرض الأساسي لمطولة “الأيامُ شَهوتُنَا المُؤجلة” واضحاً بسيطاً يتمثل في إطلاق زفرات بوح وجداني عميقة وثرية بالأحاسيس الإنسانية الشفافة والمرهفة. كما تبدو تتبعاً لسيرة ذاتية شخصية زاخرة بكل ما في الحياة الشخصية والعامة من بهجات ومسرات وانكسارات وخذلان وأحلام، تتنقل عبر محطات ذات بصمات راسخة في مسيرة الشاعرة وتجاربها الحياتية مع بعض وخزات الألم القاسية وجلد الذات الصريح، ونقل المعاناة الشخصية واسقاطها على العالم الخارجي ونقده، دون تحمل كامل مسئولية أسبابها أو نتائجها، وجاء هذا الاسقاط بصوت الجموع بدلاً عن صوتها الفردي ربما لعموميتها أو لتفادي التورط فيها!

 

ثانياً: بعض الخصائص الفنية للمطولة

 

من خلال قراءة مطولة “الأيامُ شَهوتُنَا المُؤجلة” نكتشف أنها تكتظ بالعديد من العناصر الفنية سواء الشكلية في تركيبتها البنائية أو محتوى مضمونها وتنوعه، أو تقنية سياقاتها الصاعدة والنازلة، والتي مكنتها جميعها من نسج لوحة تعبيرية رقيقة مفعمة بالإنسانية والقدرة على جذب القاريء وإسكان روحه بين سطور كلماتها المتراقصة بكل خفة ودلال. ويمكن تتبع هذه العناصر كالتالي:

 

1 – تعدد الأصوات:

 

ينطلق صوت الجموع في بداية المطولة ممهداً بساط الرحلة الشعرية الثرية بجرأة الإعترافات المريرة والخيبات العامة. وهذا الصوت هو استكمال لما أعلنته عتبة النص وعنوانه “الأيام شهوتنا المؤجلة” الذي ظهر فيه ضمير المتكلمين “نا الفاعلين” واصفاً الأيام بشهوة الجميع المؤجلة، وموغلاً في تعرية أفكار الواقع المجتمعي البائس بقولها:

 

نكذبُ في كلِّ مرة

 

يذهبُ الشهداء إلى قبورهم

 

يتركون خلفهم دموعاً وحسراتٍ

 

تتحول إلى أغاني،

 

قصائد.

 

يلوحون لنا من بعيد

 

نتقدمُ بدورنا أيضاً

 

كُلَّ يوم نحو موتنا أكثر

 

نبتسمُ …

 

نعشقُ …

 

نبكي كثيراً لأجل خساراتنا في الحبِّ

 

نقسمُ أن

 

نعتني بصحتنا…

 

نقلعُ عن التدخين..

 

نمارسُ الرياضة أو الرقص

 

وأن لا نحتسي النبيذ إلاَّ …

 

مجازاً شعرياً

 

ونكذبُ كما في كلِّ مرةٍ

 

نجمعُ صورنَا الجميلةَ

 

قبل أن يزخفَ الزمنُ

 

ويُشوهَ وجوهَنا

 

نُخلِّدُ حياتَنا القصيرةَ

 

في ألبوماتٍ ستمحوها كبسةُ زرٍ صغيرةٍ

 

لننتهي بموتٍ ليس مؤكدٌ أبداً

 

أنَّنَا سنكونُ فيه شهداءْ.

 

وهكذا منذ بداية النصّ وطوال ستة وعشرين سطراً يتوارى صوت الذات المفردة خلف صوت الجموع بلسان صريح (نكذب، نقدم، نبتسم، نعشق، نبكي، نقسم، نقلع، نمارس، نكذب، نجمع، نخلّد، ننتهي) لتنطلق بعدها الأنا الفردية بصوت المتكلم تلظم أحاسيسها وأفكارها بسيل من الإعترافات (أحببتُ، بكيتُ، أقسمتُ، كرّرتُ، …) وبهذا التمازج والتناغم بين صوتي الفردي والجماعي يتشكل الفضاء الهارموني الآسر بتعدده المنتمي إلى “البوليفونية” رغم أن ميخائيل باختين (Mikhail Bakhtin) يؤكد أن التعدد الصوتي من خصائص الرواية السردية الأدبية وأن فضاء الشعر لا يقبله، ولكنه في هذه المطولة الشعرية إزدان بها فمنحها نغمات موسيقية إضافية، وقدرة على عرض تصاوير متنوعة وزوايا مختلفة لنفس البؤرة السياقية للنصّ التعبيري، وبالتالي يمكن فهمها على أنها امتزاج وحضور أصوات متعددة في صوتٍ واحدٍ جامع لتجعل الشاعرة صوت المتكلم صدى واسعاً لأصواتٍ أخرى في مطولتها.

 

2 – الحكاية الشعرية

 

ضمَّنت الشاعرةُ مطولتها الشعرية عدة حكايات حاولت توظيفها لإثراء النصّ وعرضها في قالب سردي شعري بين طيات سطورها. وقد استهلت حكايتها الأولى في السطر الثمانين (80) باستخدام تقنية الاسترجاع الماضوي الذي جسده ظرف الزمان (الأمس) مسبوقاً بحرف الجر كالتالي:

 

بالأمسِّ كان هنا

 

يشبه ذكرياتي عنه

 

لم يكن حقيقياً كما رسمتُه في خيالي

 

بدأت ملامحُه تتسرب من شقوقِ ذاكرتي

 

لكنِّي عرفتُه من مشيته.

 

كان يتحركُ داخل غرفتي

 

يستعملُ أثاثي

 

حتى أنَّه غَــيَّــــَر مكانَ الكُرسيِّ الهزَّاز

 

احتلَّ مكتبي وجلسَ يكتبُ

 

كنتُ أُعَاتبُه على الغياب

 

أُكَرِّرُ أَنِّي لاَ أريدُهُ في بيتي، غرفتي، عالمي.

 

كان يتحركُ في صمتٍ داخلَ مساحةِ الظل

 

يُخْفِي وجهَهُ عنِّي

 

يُعْطِينِي ظهرَهُ

 

لم أكنْ أرغبُ في حضورِه

 

لكنِّي عجزتُ عن طردِه

 

وبكل دقة رسمت تفاصيل المشهد الحكائي الممتع وتصويره بخيالاتٍ مفعمة بالحركية والتفاعل، محتفظة ببعض الأسرار التي لا يمكن كشفها حتى لا تفقد الحكاية جاذبيتها ولهفة وشوق متابعتها والتخمين في مدى حقيقة واقعيتها أو فرضيتها الخلابة ومحاولة فك طلاسمها، وقد زادتها الخاتمة اعترافاً بالعجز وإقراراً ضمنياً بعدم الرغبة في تواجد ذاك الطيف بطل الحكاية. وفي تصوري أن هذا المقطع الحكائي هو من أجمل أركان النصّ ويستحق أن يظهر مستقلاً ومنفرداً بكيانه السردي الشعري الكامل مع بعض التطوير والإضافة لمساحات تتطلبها القصة النثرية وتقنيات سردها.

 

أما الحكاية الثانية فقد ازدانت بأسماء أماكن جغرافية حقيقية لتقريب واقعيتها في ذهن المتلقي وإطلاقها حدثاً كائناً فعلياً في زمن ما، كما جاءت مثيرة لأسئلة فكرية مهمة ترحل بالمتلقي إلى عوالم فلسفية عميقة بحثاً عن إجابات لها:

 

فوقَ الجسرِ كنتُ وحدي

 

أَجُرُّ جسدي الثقيلَ

 

أُحَاوِلُ إنقاذَهُ من التَّدَاعِي

 

مغنطيسٌ قويٌ يجذبُني نحو السُّقُوطِ

 

تَعْلِقُ رِجْلِيَّ اليُسْرَى أولاً

 

ثم اليُمنىَ في حفرةٍ ضيقةٍ

 

شيءٌّ ما يسحبُني بقوةٍ نحو الأسفلِ

 

إنَّه نهرٌ أسودٌ عظيمٌ يشبهُ نهرَ النيل

 

وأنَا التي لا تخافُ شيئاً قدرَ خوفِها الأنهار

 

أُحرِّكُ شفتيَّ هَمساً

 

كُنتُ أُرَدِّدُ أُغنيةً لا أذكرُ تفاصيلَها

 

لكنِّي أعرِفُ أنَّها أُغنيةً عراقيةً

 

لِمَاذا تذكرتُها وأنا أتَدَحْرَجُ، أنْحَنِي، أَقَعُ، أَنْسَحِبُ

 

“على جسر بغداد كنا عشرة واحد حبيب الروح والتسعة…”

 

تَضِيعُ بَقِيَّةُ الكَلِمَاتِ

 

تغيبُ الرؤيةُ

 

أُوشِكُ على الاِنْدِثَارِ

 

لكنَّ شيخاً مُوشَّحاً بالبيَاضِ

 

مِنَ العَدَمِ اِنْبَثَقْ

 

جَرَّنِي في عَتْمَةِ الغُرُوبِ

 

اِلْتَقَطَنِي

 

مَضَى يَحْمِلُنِي

 

الشَيّخُ، النَّهرُ المُخِيفُ والجسرُ القديمُ

 

رؤيةٌ، منامٌ، كابوسٌ

 

أم أنَّ ظِلَّهُ في غُرْفَتِي

 

هو مَنْ صَنَعَ كُلَّ هذا الألمْ

 

مَنْ أَنَا، شُخُوصٌ مُتَدَاخِلَةٌ

 

ذاتٌ متوحدةٌ مع خيالِهَا

 

تَرَكْتُ بطلةَ روايتي مُعَلَّقَةً في إحدَى أزقةِ العاصمةِ “تونس”

 

كُلَّمَا نَزَلْتُ إلى “شَارع بورقيبة” طاردني طيفُها مثل ظِلِّي

 

تَعِبْتُ مِنْهَا ومِنْ حِكَايتِهَا التي لا تنتهي

 

تَتَقَاطَعُ خُطُواتُنَا كثيراً في الآونةِ الأخيرةِ

 

إنَّهَا تُكَبِّلُنِي

 

لاَ أكادُ أَفْصِلُ بين عالَمِي وعوالِمِها المتشظيةِ

 

هو أيضاً حِكَايَاتُهُ تقتحِمُ يوميَّ

 

تُسَيِّجُ رُوحِيَّ

 

تَخْنِقُ مَنَامَاتِي

 

تَعِبْتُ مِنْ أَثَرِهِ فِي دَمِّي

 

لماذَا تَركتُ الشيخَ يسْحَبُنِي مِنَ الجِسْرِ نحو الحياةِ؟

 

ولم تكتفي الشاعرة باستحضار “نهر النيل” و”بغداد” و”تونس” و”شارع بورقيبة” كمواقع مكانية مجردة بل جعلتها فضاءات حسية تستنطق معالمها وأزقتها وتراثها، فاستدعاء ووصف المكان في النصّ الشعري يكشف عن الحالة الوجدانية للشاعر أكثر مما يكشف عن حقيقة المكان وطبيعة خصائصه الإنشائية والعمرانية، فالشاعرة هنا اتخذت المكان مرآة تعكس حالتها وتوترها الداخلي. وبطريقة شعرية خلقت تقابلاً بينها وبين معالمه العمرانية ورموزه الفكرية والتراثية ووتوظيفها في سطور النص بما يخدم الصورة الفنية العامة ويدعم الرؤى والسياقات الموضوعية فيه.

 

كما نجد الشاعرة تنفتح على تعالقات إبداعية أخرى غير جنسي الشعر والحكاية في مطولتها حين تستحضر أغنية “عمي يا بيّاع الورد” وهي ثراثية عراقية قديمة مشهورة وخالدة منذ ثمانية عقود تقريباً للفنان الشعبي “حضيري أبو عزيز” ترنم بها بعده عدد من المطربين والمطربات العراقيين والعرب، وقد جاء لحنها في مقام “السيكا” أحد المقامات الموسيقية الشرقية المسكون بالشجن والآسى ويقول مطلعها:

 

(عمِّي يا بيَّاع الورد … قُـلِّي الورد بأيش .. قُـلِّي

 

بالك تدوس على الورد … وتساوي خَـلِّهْ .. خَـلِّهْ)

 

واقتبست الشاعرة في مطولتها أحد المقاطع المضافة حديثاً لكلمات لتلك الأغنية القديمة والذي يقول:

 

على جسر بغداد كنا عشره واحد حبيب الروح والتسعه …

 

مع ملاحظة أن الشاعرة قامت بحذف الكلمة الأخيرة من المقطع وهي كلمة “قشره”، بينما معنى البيت لا يكتمل بدونها، لأنها إشارة إلى الزوائد غير الضرورية، والظواهر السطحية التي بلا قيمة، وقد وردت في الأغنية كنايةً عن عدم الإهتمام بالآخرين التسعة، وإهمال حضورهم والاكتفاء بالتركيز على حبيبها الواحد دون أولئك التسعة .. الذين جمعتهم الأغنية كلهم في مفردة “قشره” للتقليل من شأنهم جميعاً!!

 

إنَّ كلَّ هذا الثراء والتنوع الحكائي السردي والغنائي الفني يلبس مطولة “الأيام شهوتنا المؤجلة” حللاً وزينةً وعبقاً زاخراً بالبهاء والتعالق ويجعل بوحها الشخصي يتجاوز الذات الشاعرة ليصبح هاجساً إنسانياً يضفي بلاغة وعمقاً تعبيرياً مؤثراً يوطن الكثير من الصور والقيم في ذهن المتلقي وفضاء الإبداع.

 

 

 

3 – مناجاة وتضرع

 

لم يغب في سطور المطولة صوت المونولوج الداخلي للذات الشاعرة المؤمنة والمتضرعة لله، حيث نجد الشاعرة تسجل سبحات فلسفية ونزعة إيمانية ووجدانية عميقة، تتعلق فيها النفس بخالقها عبر مناجاة وشكوى تعترف بالعجز والقلق والاضطراب الفكري وتنشد الدعم والعون والمساعدة:

 

كُنتُ أُصَلِّي مثلَ العَجَائِز

 

بِالكَثِيرِ مِنَ الإِيْمَانِ

 

قليلٍ جداً منَ الانضباطِ في الحَرَكَاتِ

 

أُفَكِّرُ أَكْثَرَ فِي المَوْتِ

 

أقلَّ في الحياةِ

 

أَبْتَهِلُ بِصِدْقٍ للهِ

 

حتَّى لاَ أَقَعَ فِي الحُبِّ مُجَدَداً

 

مُتَحَايِلةً على حِكْمَتِهِ العَادِلَةِ

 

في مُحَاولاَتٍ لاَ تَنْتَهي لإقْنَاعِهِ

 

أنَّ قلبي أصبحَ أَشْبَهَ بِنَهْرٍ جَافٍ

 

لكنَّهُ في كُلِّ مَرَّةٍ يُرْسِلُ المَطَرَ

 

فَيَحْدَثُ الفَيَضَانُ!

 

لاشك أن هذا المقطع يظهر جانباً من فلسفة الحياة والموت لدى الشاعرة وعلاقتها بحالتها النفسية وتداعياتها على تفكيرها وسلوكياتها، ويكشف صوتها الداخلي قوة إيمانية تعتمد عليها في محاولة لزرع الطمأنينة في كيانها الحسي العاطفي والمادي، وهذه الحالة تبدو فيها أكثر رهافة وحساسية مفرطة تجاه ما تكابده من معاناة قاسية.

 

4 – العلاقة مع الآخر والذات

 

من خلال البوح الشعري المتنوع تغوص الشاعرة بعيداً محاولة إقحام العالم في مضمون مطولتها من خلال الإقرار بعدم مسؤوليتها عمّا يعانية العالم من فوضى وما تعرض له من هلاك وتخريب، ولكنها في المقابل تعترف بما سببته لقلبها من معاناة، وهذا دليل على تصالحها مع ذاتها وشفافية روحها في التعاطي مع عواطفها وأفكارها بكل موضوعية:

 

لَسْتُ مَسْؤولةً عن خَرَابِ العَالمِ

 

لَكِنِّي تَكَفَّلْتُ بِتَخْرِيبِ قَلْبِي

 

والآنَ أُعِيدُ كِتَابَتَهُ على شَكْلِ قَصَائِدَ

 

لاَ يقرؤُها إِلاَّ المَهْزُومُونَ

 

حُبّاً مِثلِي

 

كما تشير بشكل غير مباشر إلى الفاعل الحقيقي ممثلاً في الذات الجماعية حين تخوض حواراً فكرياً داخلياً تجادل فيه نفسها أثناء خلواتها الخاصة بعقلية متوازنة وفلسفة عميقة:

 

لا أحد يحملُ وِزْرَ أخطائِنَا عنَّا

 

حين أختلي بنفسي مساءً

 

أُخبِرُها أنَّه من حقها أنْ تغضب مني

 

أسمحُ لها بالبكاءِ لكن بعد إطفاءِ النور

 

أُحِبُّ أنْ أحتمي بالعتمة

 

الأشياءُ أوضحُ دائماً في الظلام

 

كما تتكشف شفافية روحها من خلال مواصلتها الإصرار والاعتراف المتكرر بخصوصياتها والإقرار بحيرتها وارتباك رؤاها المستقبلية في الحياة ولا تشعر بأي حرج في ذلك رغم ما تحمله مفردة “الكذب” من دلالات سلوكيات سلبية:

 

كَذِبْتُ على بعضِ الأصدقاءِ حين قلتُ إنِّي أحبهم

 

كَذِبْتُ على عُشاقٍ قُدامى أيضاً

 

حين قلتُ إِنَّهم الآن أصدقاءَ فقط

 

وكَذِبْتُ حين قلتُ إِنِّي أنتظرُ الحُبَّ

 

لأنِّي ببساطةٍ لا أعرِفُ ماذا أنتظرْ!!

 

فهل استطاعت الذات الشاعرة من خلال سطور هذه المطولة أن تتماهى أو تتوحد مع الذات الأخرى في معاناتها الصامتة؟! وهل استطاعت أن تقول كلّ ما أرادت قوله في هذا النصّ؟! وهل وجدت ذاتها في الذوات الأخرى؟! وهل تمكنت لغة النصّ في هذه المطولة من التعبير عما تعيشه الذات الشاعرة من هواجس وشجون ومشاعر وما تتطلع إليه من أحلام ورؤى وطموحات؟ ولا شك فإن هذه الأسئلة قد تقودنا بها الشاعرة إلى أطروحات الناقد الفرنسي البلغاري تزفيتان تودوروف (بالفرنسية: Tzvetan Todorov)‏ حول مدى ارتباط الأدب والشعر بعلاقات ذات دلالات مع الآخر فيما يسمى النظرية الكلاسيكية للشعر، وبالتالي فإن إجابات هذه الأسئلة وغيرها من التساؤلات المسكونة في النص بشكل غير ظاهر مباشر سيكتشفها القاريء البارع إن كان يتحلى بمستوى عالٍ من ذائقة إبداعية، وفكر مستنير يملك أدوات تحليل دقيقة، وحسٍّ مرهفٍ لقلب ينبض محبةً، وروحٍ تعشق الجمال في أبهى صوره.

 

5 – مطرقة الأسئلة

 

يقول المفكر الفرنسي “ميشيل فوكو Michel Foucault”: “مشكلتي أن أصنع ذاتي وأن أستدعي الاخرين لأن يصنعوها معي”، وقد يكون الاستدعاء ليس تقريرياً أو وصفياً بل عبر أسئلة تفتح شهية العقل للمزيد من الأفكار والآراء وإستضافة مشاركات من ذوات أخرى مختلفة. وفي هذه المطولة أرادت الذات الشاعرة أن تشكي الذوات الأخرى، فتولت قرع الفكر بمطرقة أسئلتها المدوية التي توالدت بعد سلسلة مشاعر متضاربة مبعثها لحظات قلق وخوف واعتراف مستمر، وتفاعل متسارع مع الحياة كما تعبر عنه أفعال مضارعة بالنص في دفقة بوح متتالية (أخافُ، أشمرُ، أبحرُ، أشتاقُ، أعالج،ُ أخترعُ) بحثاً عن لحظة يقين أو حتى إدراك لما يجري في هذه الحياة لعله يبعث بعض الاطمئنان والسكينة في النفس:

 

أَخَافُ أَنْ أُحِبّ

 

أُشَمِّرُ سَاعِدَ قلبي،

 

أُبْحِرُ عَميقاً دَاخِلي

 

أَشْتَاقُ لكَ كثيراً

 

لَكِنِّي مثلُ كُلِّ النِّسَاءِ

 

أُعَالِجُ الشَّوْقَ بِالأُغْنِيَاتِ

 

أَخْتَرِعُ أُحِجِيَاتٍ لِقَلْبِي

 

وخلال كل ذاك الغليان أو المخاض الذي يمثل ثورة فكرية ونفسية انبعتث بالنص أسئلة عقلانية متنوعة مسكونة بهموم ذاتية حيناً وإنسانية شاملة حيناً آخر، بعد اختمارها في الباطن وتحريكها لوجدانها وعواطفها الجيّاشة ليظهر مستهل رحلة الأسئلة بالمطولة هو:

 

لماذا تذكرتها وأنا أتدحرجُ، أنحني، أقعُ، أنسحبُ!!

 

ويتعدد هذا السؤال المفتوح في أوجه تفسيره وتحليله، فهو قد يحمل لوماً وعتاباً للذات الشاعرة، أو يبحث عن إجابة مطمئنة، وقد يكون مجرد استفسار موجه للمخاطب، أو ربما إجمالاً هو إلقاء حجر في بركة الذاكرة الراكدة لإيقاظها من سباتها في محاولة للتعليل أو التبرير فيما يخص تلك الأغنية القديمة التي تفاعلت في كيان الذات الشاعرة وحوّلت أحاسيسها إلى أفعال مادية متعددة.

 

ثم يأتي بعد ذلك سؤال الذات الفلسفي العميق الذي ربما استمد تخلقه وتكوينه من إمام الفلسفة الوجودية المفكر الفرنسي “جان بول سارتر Jean-Paul Sartre” أو انتزع روحه من تأملات “رينيه ديكارت René Descartes” التي تأسست على مقولته الشهيرة (أنا أفكر إذاً أنا موجود)، ليتبع سؤال النص ردٌّ سريع مباشر وإجابة غير حاسمة ولا مؤكدة تشرع باب فكر المتلقي لمزيد الغوص والتدبر والبحث في حقيقة الوجود ودلالاته أو افتراضية خيالاته وأشكاله:

 

من أنا، شخوصٌ متداخلة

 

ذاتٌ متوحدة مع خيالها؟

 

وبقدر بساطة تركيبة السؤال العقلاني وحروفه المحدودة إلاّ أن مدايات استفساره وبحثه شاسعة تتجاوز الصوت والفكر الفردي إلى الجماعي والإنساني كافة، بما يحمله من تباين في الرؤى والتفكير وسعي دوؤب نحو معرفة مشتركة.

 

ويأتي ثالث الأسئلة في المطولة ليكمل أسئلة الفكر، ويضفي عليها بسطة من خيال يجسد مشهداً يبث روحاً في تلك الصورة التي تنتمي للواقع حيناً وتتشكل من نسيج خيالي في حينٍ آخر ولكنها في الحالتين تحرص على الحياة واستمراريتها بكل ما فيها من مكابدة ورغبات وأحلام.

 

لماذا تركتُ الشيخ يسحبني من الجسر نحو الحياة؟

 

ثم يأتي السؤال بعد سطر تقريري واحد في مستهل المقطع الثالث فينقلنا من الصوت الفردي إلى انشغال الجموع به وهو يصدح بكل هدوء واتزان وبما يعتمره من قلق وهواجس:

 

هذا العالم فقد جدواه

 

مَنْ نحنُ؟

 

غَضَبُ الشَّوَارِعِ!

 

جُوعُ الشُّعُوبِ!

 

ثَوْرَةٌ قَتِيلَةٌ!

 

حَرْبٌ لاَ تَشْبَع مِنْ دِمَاءِ أَبْنَائِهَا!

 

فَلِمَاذَا تَغْضَبُ مِنْ نَفْسِكَ؟

 

تَخْجَلُ مِنْ قَلْبِكَ!

 

وَعَجْزِكَ عَنِ الحُبِّ!

 

يقرع هذا السؤال الذوات الإنسانية كافةً ويهز كياناتها المادية والحسية معاً، مقترحاً أربعة إجابات أو تخمينات لكينونتها (غضب الشوارع، جوع الشعوب، ثورة قتيلة، حرب لا تشبع) لعلها تتلمس بها مسارب الحقائق المتباينة والمتداخلة لتنسج من شريانها الداخلي سؤالاً كبيراً ينتقد حالة الطوفان والغضب:

 

فلماذا تغضب من نفسك؟

 

فتتوالد من رحمه الأسئلة من جديد لتستمر الحياة والتفكير في مآلها بكل موضوعية ومنطق جدلي عقلاني تسترجع به شواهد عديدة لبعث راحة في الفكر واستنهاض للعقل عبر تقنية العودة الماضوية أو “الفلاش باك” لتعلن أن عتبة النصِّ الأولى “الأيامُ شهوتُنَا المُؤجلة” هي العلة والسبب والهدف وبعض اليقين:

 

حَمَلْنَا اِنْكِسَارَاتِنَا أَعْوَاماً

 

وَمَا تَجَاوَزْنَا جِرَاحَنَا العَمِيقَةَ

 

مَا طَلَعَ صَبَاحُ إِلاَّ وَنَارُ

 

الحُزْنِ مُشْتَعِلَةٌ لاَ تَخْمُدُ

 

الأَيَامُ شَهْوَتُنَا المُؤجْلَةُ

 

ثم تدور عجلة الأسئلة مجدداً كما الحياة، ولا يتوقف نهر الأسئلة حتى الرمق الأخير من النص، فتظهر الخاتمة حبلى به كما البدايات لتعيد تدويره فينا جميعاً حتى وإن كان المخاطب والمعني به طيفاً مفرداً يتمثل في الجميع:

 

فَكَيْفَ تَلْجُمُهَا

 

وَمَا لَكَ مِنْ سِلاَحٍ

 

كُلَّمَا اِلَتَقْينَا

 

إِلاَّ الرِّيحُ وَالنَّارُ.

 

وهذا التوحد والتماثل الفردي والثنائي يؤسس لصوت جماعي ليس بغريب أو جديد في النص، حيث عرفناه سابقاً حين منحته الشاعرة مقطعها الثاني كاملاً لتؤكد عليه في تلاحم فكري ووجداني بالحضور والغياب والإسم والصفة:

 

أَنَا وَأَنْتَ إِسْمٌ لِلْغِيَابِ

 

نُعَاتِبُ التَّارِيخَ

 

نَلْعَنُ الجُغْرَافيا

 

نَنْسَى أَنَّنَا صُدْفَةُ حَيَاةٍ

 

كِذْبَةٌ في سِيَاقِ الحَاضِرِ

 

وبدوره يثير هذا المقطع العديد من الأسئلة الذهنية في فكر القاريء عند تمعنه في المطولة، فمثلاً هل تعمدت الشاعرة الفصل بين ضمير المتكلم (أنا) والمخاطب (أنت) وجعلتهما متباعدين في سطور النصّ بينما وحدتهما في “اسم للغياب”، وهل لها مقاصد معينة لم تفصح عنها؟ أم أن عفوية المواجهة هي التي موضعت كلٍّ منها بهذا الشكل؟

 

وفي كل الأحوال فإنه لابد من التأكيد على أن الشاعرة طرّزت نصّها بكل هذه الإثارة واللغة العالية والبوح الوجداني العميق ربما بهدف تحفيز القاريء البارع وإدارة محركات فكره للتدبر والتأمل في معاناة إنسانية في هذه الحياة بكل ما تواجهه من تحديات وانشغالات، وقد استطاعت أن تشكل لوحة نصية شعرية مبهرة تتراقص فيها اللغة عارية بكل دلال وعذوبة يتدفق منها الشعر كالزلال من ينابيع مفردات بسيطة التكوين تحمل وضوحها وغير موغلة في الغرابة.

 

الخاتمة:

 

لا بد من الاعتراف بأنه ليس من السهل الإحاطة بكل ما ورد في مطولة الشاعرة ريم قمري ‘الأَيَامُ شَهْوَتُنَا المُؤجْلَةُ’ من صور فنية وأسلوبية وتحليل مشاعر ورؤى نصٍّ زاخر بالشعر والأحلام والأحاسيس والمشاعر المتقلبة والمتأرجحة بين نسائم حانية ورياح وعواصف هوجاء، احتضنتها قصيدة النثر الحداثوية لتعكس بها تفاعلات الشاعرة خلال مسيرة حياتها بكل ما يكتنفها من لحظات بهجة خاطفة ومواجع انكسارات مؤلمة مقيمة وظروفها وأحوالها المتباينة. ولكني أزعم أن محاولة هذه الكتابة قد تلامس النصَّ أو تقترب منه لتعري بعضاً مما دُسَّ أو توارى خلف سطوره، بهدف الدنو منه أكثر، أو ربما حتى المشاركة في انشغالاته كافة، وهو ما يزيده شمولاً واتساعاً مستحقاً.

 

فالشاعرة والصحفية ريم قمري تملك رصيداً معتبراً من الإسهامات الإبداعية المتنوعة في النثر والشعر على حد سواء، حيث صدر لها ديوان شعري أول بعنوان “النساء انتظار” سنة 2013  تبعه “على جسدي وشمت تمائمي سنة 2016م و”ما لم يقله الحلم” سنة 2018م، ومجموعة قصصية أولى بعنوان “حياة أخرى لعمر مضى” 2021، وقد تأهلت أكاديمياً ومارست مهنة المتاعب في الصحافة والإذاعة وشاركت في العديد من اللقاءات والمؤتمرات داخل تونس وخارجها، وهي بذلك كله تحمل رصيداً من الاطلاع والخبرات المتراكمة استطاعت الاتكاء عليها واستثمارها لصياغة مطولة بانورما شعرية رقيقة بكل اهتمام ودقة وإتقان، ولذا جاءت مطولتها “الأَيَامُ شَهْوَتُنَا المُؤجْلَةُ” متأسسة على تراكم خبرات المشوار العملي الطويل معززةً بشحنة مشاعر عاطفية جياشة تمازجت بكل شفافية ورهافة وعذوبة.

زر الذهاب إلى الأعلى