حسابات خطيرة بلا ضوابط في “عولمة” حرب طويلة
بقلم: رفيق خوري

كلما طالت المعارك برزت شقوق داخل النخبة الروسية إلى جانب التململ الشعبي من الخسائر وصعوبات المعيشة

النشرة الدولية –

لا شيء يضمن، وإن كان هناك ما يردع، ألا تتطور حرب أوكرانيا إلى حرب عالمية. وليس قليلاً عدد الخبراء الذين يتخوفون ويحذرون من الانزلاق إلى ذلك بالخطأ في الحسابات أو بالفعل وردّ الفعل، فللحروب بعد بدئها دينامية ذاتية لا يسيطر عليها أحد. لكن الواقع الملموس الآن هو “عولمة الحرب” التي سمّاها الرئيس فلاديمير بوتين بـ”عملية عسكرية خاصة”. فالأمين العام لـ”الحلف الأطلسي” ينس ستولتنبرغ يتوقع أن تدوم الحرب سنوات. وهذا يعني استنزافاً هائلاً للموارد والأسلحة والمال والعسكر في أوكرانيا وروسيا والغرب، بالقياس على ما تستهلكه حرب أوكرانيا يومياً. ومن الصعب الاستمرار فيه وبقاء كل شيء داخل أوكرانيا من دون التوسع في الجغرافيا، أو في استخدام الأسلحة النووية التكتيكية لتسريع المسار، أو من دون السعي لوقف الحرب عبر صيغة لا تزال مرفوضة حتى الآن: صيغة التنازلات الجغرافية. فما جرى في مغامرات بوتين العسكرية هو عكس ما فعله السوفيات والأميركان. الدبابات السوفياتية اجتاحت المجر ثم تشيكوسلوفاكيا لقمع تبدل نحو الانفتاح في بودابست و”ربيع براغ” تطبيقاً لما سُمّي بمبدأ “السيادة المحدودة”. لكن موسكو لم تبدل حدود البلدين العضوين في “حلف وارسو” بقيادتها. وأميركا غزت أفغانستان ثم العراق، وأسقطت نظام “طالبان” ونظام صدام حسين. لكنها لم تبدل الحدود.

أما بوتين، فإنه تدخل عسكرياً في جورجيا عام 2008، وسلخ عنها إقليمَي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، واعترف بهما “جمهوريتين” مستقلتين. وفي عام 2014، ضم بالقوة إلى روسيا شبه جزيرة القرم التي كانت جزءاً من أوكرانيا. وفي الحرب الحالية، فإنه طلب في البدء تغيير الفريق الحاكم، ونزع سلاح أوكرانيا ومنعها من الانضمام إلى “الحلف الأطلسي”، ثم ركز العمل العسكري على احتلال دونباس والاعتراف بـ”جمهوريتي” دونيتسك ولوغانسك وإبداء الاستعداد للضم إلى روسيا. وفي رأي روبرت كاغان من مؤسسة “بروكنغز”، فإن “بوتين لعب بذكاء على الرغم من ضعفه، والغرب لعب بغباء على الرغم من قوته، فربح بوتين في مغامرات محدودة في جورجيا والقرم وسوريا، لكنه في أوكرانيا وقع في الخطأ الكبير”. وأما ميخائيل كاسيانوف، وهو أول رئيس وزراء عمل مع بوتين سنوات ثم أصبح معارضاً له، فإنه هرب أخيراً إلى الغرب ليقول رأيه بحرية. ومختصر ما قاله هو: “بوتين يعمل بطريقة أقسى وأشد وحشية مما كان يفعله الاتحاد السوفياتي، نتيجة الحرب تحدد مستقبل روسيا. وأنا مختلف مع الرئيس إيمانويل ماكرون في دعوته إلى عدم إذلال روسيا. فمن الضروري أن تنتصر أوكرانيا، لأنه إذا سقطت أوكرانيا ستكون دول البلطيق هي التالية. وروسيا ستعود إلى بناء دولة ديمقراطية، لكننا في حاجة إلى عشر سنين للتخلص من الشيوعية ومن تأثير بوتين”. وليس ذلك سهلاً. وليس ما يعمل له بوتين سوى العكس.

ذلك أن من الصعب تحديد ما يبقى من أوكرانيا غير مدمّر إذا استمرت الحرب سنوات. والأصعب هو أن يحقق الغرب، عبر إرسال السلاح والمال في حرب بالوكالة، شعار انتصار أوكرانيا على روسيا. فلا كييف تستطيع إلحاق “هزيمة استراتيجية” بروسيا في الحرب الكلاسيكية الحالية أو في حرب عصابات مستقبلية. ولا موسكو، ولو دمرت أوكرانيا، تستطيع أن تعلن “الانتصار الاستراتيجي” لها و”الهزيمة الاستراتيجية للغرب”. فما قاد إلى “عولمة الحرب” وإن لم تقع حرب عالمية، يقود بطبائع الأمور وقوة الأشياء إلى مهمتين مستحيلتين: الانتصار الكامل والهزيمة الكاملة. وكلما طالت الحرب برزت شقوق داخل النخبة في روسيا إلى جانب التململ الشعبي من الخسائر وصعوبات المعيشة، وظهرت خلافات وانشقاقات داخل أوروبا ومع أميركا. ففي الحسابات الباردة، يستطيع سكريتير الأمن القومي الروسي نيكولاي بيتروشيف القول: “لسنا في سباق مع الزمن في العملية العسكرية الخاصة، ولا في عجلة من أمرنا”. أما في الوقائع التي تتحكم بها قوة الحقائق، فإن الزمن عدو القوة الاحتلالية وسلاح في يد مقاومي الاحتلال، وعدو القوى الخارجية التي ترسل الأسلحة والمال وتراهن على معجزة.

والتراجيديا مستمرة. وأقسى ما فيها أن يسلّم الجميع على طرفَي الحرب بإعطاء الأولوية للحسابات الجيوسياسية والاستراتيجية ومكانة القادة على مصائر الشعوب وما يعانيه المواطن العادي في كل مكان.

زر الذهاب إلى الأعلى