إدمان على الأخبار السيئة

مصطفى أبو لبدة

إرم نيوز –

كم خبرًا سيئًا في اليوم، يستطيع الشخص العادي أن يتحمّل، قبل أن ينكسر؟

ولماذا لم تتشظ حتى الآن مجتمعات شرق المتوسط (بلاد الشام والعراق)، وهي على اتصال السنوات العشرين الماضية من الحروب والإرهاب والاختلالات والتهجير، باتت تحتل الآن المراتب العالمية الأولى في معدّل استقبال أو انتظار الأخبار السيئة، والإدمان عليها؟

واضح أن هذه الدول وشعوبها طورت لنفسها ميكانيزمات دفاعية ،أصبحت فيها الأخبار السيئة جزءًا من التركيبة.

بعد حوالي سنتين من حرب الاحتلال الأمريكي للعراق (2003)، أجرت صحيفة ”واشنطن تايمز“ الأمريكية بحثًا ميدانيًا في التركيبة النفسية للمجتمع العراقي الذي وجد نفسه تحت الاحتلال العسكري من جهة، ورهينة التنفّذ الإيراني والتوزعة الطائفية من جهة أخرى.

رصد التقرير ما استجد من سلوكيات اجتماعية جرّاء كثافة الأخبار السيئة التي تتناوش الناس العاديين على مدار الساعة، وخرج بعنوان لافت يقول إن ”الأمن العراقي هو أخطر وظيفة في العالم“.

وكانت الصحيفة في ذلك تقول إن حجم الأخبار السيئة التي يسمعها أو يطّلع عليها رجل الأمن العراقي هي أضعاف ما يتعرض له أمثاله في الوظيفة بالدول الأخرى.

تقرير ”واشنطن تايمز“ عن تأثير كثافة الأخبار السيئة على المزاج العراقي- بغض النظر عن مدى دقة تشخيص مُراسل – لفت أنظار جهات عديدة من التي تتخصص بعلم النفس الاجتماعي، والتي ترى في الشرق الأوسط مختبرًا لقياس قدرة المجتمعات المحلية على معاندة التحلل تحت ضغط الاستنزاف الموصول.

المؤتمر الدولي لعلم النفس لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA RCP)) خصّص للأخبار السيئة دورتين من مؤتمراته، وعمّم أوراق وعناوين البحوث لتشمل المنطقة كلها، بعد أن توسعت ارتدادات احتلال العراق وأصبحت الأخبار السيئة حالة شرق أوسطية نموذجية في قدرتها على توليد الأمراض النفسية، ابتداءً من التوتر، والاكتئاب، والتعب، والتشاؤم، والانتحار، وصولًا إلى ضعف التركيز، وانحسار المتعة، ومشاكل النوم.

استخدم المؤتمرون، إلى جانب الرياضيات وعلم الفلك والطب، المفاهيم النفسية والفلسفية لشرح ظواهر متوسعة في المنطقة، مثل: الصرع، والهستيريا، والأوهام، والأحلام، ورصدوا محفزاتها السياسية والأمنية والاقتصادية.. كما فحصوا العلاقة بين كثافة الأخبار السيئة وبين ما وصفوه بأنه ظواهر السلوك العدواني بين طلاب الجامعات، بما فيها العدوان على الذات والآخرين.

بحثوا أيضًا في الآثار السلبية العميقة التي يعاني منها ملايين المهجّرين في المنطقة وما يُحدثه الانتقال الثقافي الدائم من إعادة تقييم للهويّة الشخصية وللعلاقات مع الأسرة والبلد الأصلي، ومن تصورات للدول المستقبلة لهم.

وكان التقدير أن هذه التغييرات التي حصلت تحت الضغط والألم، مرفوقة بضخ يومي للأخبار السيئة، صنعتْ وعيًا لا يعود فيه الناس يعرفون مَن هم، حيث تتكون لديهم صورة خاطئة عن هويتهم: يفتقدون الودّ العميق، ويستخدمون نزعة الدفاع بشكل متكرر، مع انحسار ملموس في مهارات القناعة والرضا.

الانتماء لديهم يصبح الولاء الأعمى، والسلام هو غياب العاطفة، وهي في مجملها توليفة قياسية في الاستعداد الاجتماعي للمزاج الترهيبي.

في توصيفه للحالة المرضية التي صنعها عقدان من الخلل الأمني والاجتماعي، ومن كثافة الأخبار السيئة في بلدان الشرق الأوسط، ظلّ ”المؤتمر الدولي لعلم النفس لمنطقة الشرق الأوسط“ أكاديميًا متحفظًا في إطلاق التعميمات القطعية السالبة.. تقييماته لسوء الحال الإقليمي، بقيت أكثر تحفظًا من الكتّاب السياسيين الذين أخذوا مداهم في التشنيع.

في كتابه عن ”التخلف الاجتماعي والشخصية العربية المقهورة“، استسهل كاتب مثل الدكتور مصطفى حجازي، أن يعمم القول بأن الذات العربية أضحت ذاتًا مقهورة تعيش حالة من فقدان قدرة السيطرة على مصيرها، ولا تتوافر على أي ضمانة تحميها، ما أدى إلى تضخم مشاعر العجز والقلق والاستكانة لديها. ولذلك هي أكثر استعدادًا للإحساس بالإثم واليأس معًا، وهو ما يؤدي إما إلى شيوع الانتحار أو الى التمرد ومعايشة النفسية الاستبدادية.

وبنفس نهج التعميم ذهب الباحث اللبناني علي زيعور في كتابه ”التحليل السيكولوجي للذات العربية“، ليوسع القول إن الشخصية العربية المعاصرة أضحت مصابة بالارتجاج، والقلق، وتخلخل القيم، وانجراح في مشاعر الأمن والانتماء.

أحدث وأطرف قراءات نفسية في حال الشرق الأوسط وهو يتصدر العالم في المعدل اليومي للأخبار السيئة، أجرتها جامعتا كاليفورنيا الأمريكية، وكلية لندن الجامعية، بشكل منفصل. في بحث بعنوان ”حماية الدماغ من الأخبار السيئة“، عرضت الدراسة البريطانية، كيف أن أهالي الدول والأقاليم المنكوبة بالحروب والإرهاب والاحتلال، تتطور أدمغتهم في البحث عن الخطر وتوقعه، ويصبح صعبًا عليهم مقاومة الدافع لاستهلاك الأخبار السلبية.

وبدورها، فإن مشاعر الخوف، والحزن، والغضب، التي تثيرها العناوين السلبية تجعل الناس عالقين في نمط من المراقبة المتكررة، مما يؤدي الى مزاج أسوأ والمزيد من القلق الذي ربما يفسّر ظواهر الانتحار، ونوعيات جرائم القتل الموغلة في البشاعة، وهي التي جرى تسجيل نماذج منها خلال الفترة الأخيرة بأكثر من بلد عربي.

وتتوسع الدراسة في عرض ما يفعله بعض الإعلام الرسمي من أجل ”فلترة“ الأخبار السيئة وتحييد مفعولها بحيث تصبح جزءًا من طقوس الحياة اليومية، فيها من الإثارة الغريزية بقدر ما فيها من إدامة الاستسلام والإدمان عليه.

وتكشف الدراسة عن مستخلصات علمية تعتمدها بعض أجهزة التوجيه والتحشيد الإعلامي، وتؤمن فيها أن الأخبار المفبركة والتسريبات السياسية والأخلاقية إذا جرت عنونتها بشكل محترف فإنها تمتلك تأثيرًا طويل الأمد على الخلايا المعرفية في الدماغ.

تأثيرٌ عميق لا تقلل منه بيانات التصحيح اللاحقة، بمعنى أن مفعول البيانات الرسمية والتوضيحية و التبريرية لا يلغي قوة تأثير التسريبات والفبركات وطول مداها.

الأكثر طرافة هو ما أظهرته الدراسة التي أجرتها جامعة كاليفورنيا، وخلصت فيه إلى أن التعرض المتكرر للأخبار السيئة يمكن أن يساعد الناس على التعافي منها بشكل أسرع؛ فالتفكير في الموقف بشكل متكرر، بدلًا من تجنبه، يؤدي إلى تسريع التعافي العاطفي.

ولذلك يقول المشرف الرئيس على المشروع، نيل جاريت، إن ”قدرًا معينًا من الجهل يمكن أن يساعد في إبقاء عقلك مرتاحًا“.

نصيحة لا يأخذ بها أهل الشرق الأوسط في انكشافهم و إدمانهم على الأخبار السيئة.

زر الذهاب إلى الأعلى