تجارة الصور الإلكترونية
بقلم كوليت بهنا
خلال اجتياح العاصفة الجوية “نورما”، وهي عاصفة عنيفة قطبية المنشأ تأثرت بها دول حوض البحر الأبيض المتوسط خلال الأسبوع الفائت، وتركت آثارها المدمرة في معظم هذه الدول وبخاصة في لبنان، تبادل مشتركو “فيسبوك” صورة مقسومة إلى شقين، تظهر في أحدهما سيدة جميلة ثرية المظهر تقف مع أولادها الثلاث في أحد أجمل مراكز التزلج والسياحة الشتوية في لبنان، وقد ارتدوا جميعا أجمل وأجود الملابس الخاصة بالثلوج، وبدا الأطفال في أوفر حالة من الصحة والسعادة والرفاهية؛ فيما ظهر في الشق الثاني من الصورة أطفال يجسدون المأساة المستمرة للاجئين السوريين في لبنان، وجوههم زرقاء لشدة الصقيع وتغطي أجسادهم قطع خفيفة ورثة من الثياب يقفون في عراء المخيم الذي غطت معالمه أكوام من الثلوج التي حملتها العاصفة.
ترافقت الصورة التي أظهرت هذا التناقض الصارخ بين الثراء والفقر وبين رغد العيش وشظفه، مع وابل من التعليقات المتعاطفة والمشفقة على أطفال المخيمات. هذا أمر عادي وإحساس إنساني طبيعي؛ في مقابل تعليقات طالت المرأة الثرية ووجهت لها ـ دونما ذنب ـ شتائم واتهامات تحمل الكثير من التجني والحسد والحقد. تم اعتبارها رمزا استفزازيا يعبر عن أصحاب المال والرفاهية الذين لا يشعرون بمعاناة الفقراء، ولا يتعاطفون معهم أو يتبرعون ببعض من أموالهم لمساعدة المحتاجين كما جاء في الكثير من التعليقات المسيئة في معظمها.
استعمال متناقضات الحياة أحد فنون التصوير، والغرض منه إيصال رسالة إنسانية أو سياسية أو اجتماعية أو فنية أو غيرها، أما الهدف منها فتحريك الضمائر لحثها على فعل ما.
أحد أجمل من برع في هذا النوع من فن التصوير الفنان التركي “أوغور غالن” الذي استعمل تناقضات الحياة في كل مفاصلها، لكن الغرض من صوره ليس تحريك الأحقاد أو استثارة الحسد، إنما هي صور متقنة فنيا استخدم فيها أسلوبية المزج البديع لإيصال رسالة تذكر العالم (بالمتناقِضَين الصارخين لموضوع واحد) لعل هذا العالم يتحرك للتخفيف من غلوه. في إحدى صوره يظهر فيها طرف من جسد طفل يافع يحمل سلاحا يقوم بمزجه مع شق الصورة الثاني وهو يحمل غيتارا، تاركا الكلام للصورة لاختيار الحالة الأفضل للطفل، ودفع العالم إلى منع زج الأطفال في المعارك.
لكن في الصورة المشار إليها أعلاه عن السيدة المنعمة مع أطفالها في مركز التزلج اللبناني وما رافقها من تعليقات، يختلف الأمر كليا، فهذه السيدة ليست هي المسؤولة عن واقع اللاجئين السوريين أو غيرهم، وليست هي من تسبب بمأساتهم كي تطالها الاتهامات المسيئة!
كما أن من حق أطفالها عليها الرفاهية والفرح وإسعادهم إن استطاعت، ومن حق أطفال المخيم وكل الأطفال الفقراء على البشرية أن تدفع لتخليصهم من واقعهم المزري وإسعادهم وتأمين الحياة التي تؤمن لهم الفرح والسعادة إسوة بأطفال السيدة الثرية التي ربما لا تعلم أن صورتها استعملت لهذا الغرض.
وربما لا يعلم أحد إن كانت هذه السيدة تشعر بمعاناة الناس وتساعدهم سرا، ولو كانت هذه السيدة وزيرة أو مسؤولة أو ذات قيمة اعتبارية ما ونشرت صورة كهذه في ظل الظروف المأساوية المشار إليها، حق للناس نقدها ومساءلتها عن الغرض من توقيت نشر صور ترفيه استفزازية كهذه، في الوقت الذي يعاني فيه آلاف الأطفال في بلدها ويقضون جوعا وبردا؛ لكن هذه السيدة تبدو سيدة عادية، ثراؤها ليس تهمة ضدها، وليس كل ثري مدان ولص وفقا للنظرة المشككة والمبيتة لأمواله التي ربما جمعها بتعبه وعمله، دون أن يعني هذ الكلام أن الأغنياء معفيين من تحمل مسؤولياتهم، والمطلوب في الحياة ليس إفقار المرأة وأسرتها، بل إثراء الفقراء، وتحقيق العدالة الاجتماعية ما أمكن في ظل قوانين تكفل حق الطرفين في الحياة السعيدة.
صور كثيرة لمآسي اللاجئين السوريين استعملت بشكل خاطئ كليا وأعطت أثرا معاكسا أضر بهم، وأكثر من استعمل هذه الصور تبين أنه إنسان مرتاح يجلس خلف جهاز الكومبيوتر يستغل هذه المعاناة لأغراض خاصة بعد أن أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي واستعمالاتها الخاطئة لكل من يشاء استعمال صور الناس والمتاجرة بها أو التنكيل بها كيفما يشاء.
معاناة اللاجئين السوريين كبيرة وموجعة وكارثية مستمرة منذ سبع سنوات، وفي كل شتاء قاس أو صيف ملتهب تنتشر صور هذا الشقاء الإنساني، ومن لم يتأثر بصور معاناتهم قبل سبع سنوات لن يتأثر اليوم حتى لو نشرت آلاف الصور. الأهم هنا، أن حلول هذه المعاناة هي في مسبباتها، والأجدى التركيز على هذا الجانب ودفع الحكومات المعنية والمنظمات الدولية لتحمل مسؤولياتها اتجاههم، وليس الاستعمال المسيء لوسائل التواصل الاجتماعي لكيل التهم لامرأة أرادت أن تبهج أطفالها في موسم الثلج، مع التنويه إلى معلومات مؤكدة إلى أن كثير من الأسر اللبنانية الميسورة لم تتأخر في مد يد المساعدة في محنة المخيمات السورية الأخيرة.
عام 1945 حين سمع أينشتاين عن إلقاء القنبلة الذرية فوق هيروشيما وناغازاكي أحس بالاختناق والفجيعة فكتب: “إن تطور البشرية اللاحق يتوقف على دعائمه الأخلاقية، وليس على مستوى الإنجازات التكنيكية”.
نحن أيضا أمام هذا التحدي الأخلاقي في كيفية استعمال ما أتاحته لنا التكنولوجيا الحديثة، رغم أن رصدا سريعا لاستخدامات وسائل التواصل الاجتماعي يشير إلى الانحدار الأخلاقي العام، وربما القادم أسوأ.