يوم من دون هاتف* لمياء المقدم

النشرة الدولية –

تعطل هاتفي منذ أيام ووجدت نفسي فجأة بلا فيسبوك ولا تويتر، ولا الواتساب ولا أي وسيلة للاتصال بالعالم. كانت لحظات صعبة أستطيع أن أقول لكم إنها تشبه فقدان شيء عزيز. فقدت توازني ليوم كامل تقريبا. تغير العالم من حولي، وتغيرت علاقتي به، ولم أعرف ما الذي يجب علي فعله. سحبت أكثر من كتاب وتركته. توزعت الكتب فوق السرير وعلى الطاولة وعلى الكرسي المجاور لباب الحديقة. كتب في كل مكان في البيت منكفئة على وجهها، كأن البيت تسكنه أشباح تحب القراءة.

لا أعرف هل انتشرت الكتب في البيت بسبب رغبة حقيقية في القراءة وملء الوقت الذي أصبح فارغًا وطويلًا فجأة أم لأنها أرواح تؤنس.

الكتاب الأول قرأت منه صفحتين ربما، وهو عن زوجات النبي وعلاقته بهن، كان قد رشحه لي صديق عانى ويعاني من مشاكل وتعقيدات بين زوجته السابقة وأبنائه وزوجته الحالية، وكان يبحث عن القدوة في سلوك الرسول وتصرفاته مع نسائه وكيف استطاع أن يجمع بينهن، وكن 12، في بيت واحد. بعد صفحتين تركت الكتاب من يدي وأنا أشعر بضجر واضح وسحبت كاتبًا آخر اعتبره حجر أساس في مكتبتي: كونديرا. وكونديرا بالطبع ملهم، وساخر، يعلمك ويسليك ويضحكك في نفس الوقت. قلت في نفسي “خفة الكائن” هي الحل، ولكني سرعان ما ضجرت أيضًا وتركت الكتاب من يدي ملقى على وجهه.

ثم جاء دور الشعر، أكثر من ديوان لأصدقاء وزملاء أعرفهم يستقرون على الدوام بجانب فراشي. سحبت الأول، وقرأت بعض الأبيات، ثم الثاني والثالث، وأخيرا تخليت عن فكرة القراءة تماما، ولأول مرة يخطر لي أمر مفزع: القراءة مضيعة للوقت.

انتهيت إلى استنتاجي هذا وأنا في غاية الدهشة، إذ كيف يمكن أن تكون القراءة مضيعة للوقت؟ ومنذ متى؟ ما الذي يعتبر مكسبا إذًا: فيسبوك وتويتر؟

قلت في نفسي وأنا أحاول تهدئتها إن المعرفة تغيرت وأن وسائل تحصيلها تغيرت أيضا، فالكتاب الذي كان يلتهم يومين أو ثلاثة أو أسبوعا من عمرك ليوصلك إلى فكرة معينة أو ليمنحك معرفة ما، يمكن تعويضه اليوم بتغريدة قصيرة من كاتب أو شاعر أو ناقد أو مترجم يضع فيها خلاصة فكره وموقفه من أمر ما، تغريدة لن تأخذ منك سوى 10 ثوان. بدا الأمر مسليا وأنا أصل إلى هذا الاستنتاج وشعرت أنني أمسك برأس الخيط. ثم شرعت في مقارنة الكتب بالموسيقى. في زمن ما كانت المقدمة الموسيقية لأي أغنية تستغرق نصف ساعة قبل أن ينطق المطرب بأول كلمة. من منا يحتمل اليوم شيئا كهذا؟

وأيضا شعرت بضجر من سطحية هذا التفكير، ووبخت نفسي بشدة وأنا أقول: الكتب كنوز حقيقية ولا معنى للحياة من دونها. بورخيس قال ذلك ونحن نصدق بورخيس.

الأفكار المضجرة أعادت لي جزءا من توازني، ولهذا قررت أن أخرج للمشي في الغابة. لا شيء أجمل من الغابة في الخريف. مشيت بين الأشجار العارية ونصف العارية والأرض المبللة والأوراق المتعفنة وأنا أشعر بهدوء حقيقي. استعنت بكل معرفتي باليوغا لأركز حواسي على ما تراه وتسمعه. كنت أرى كل تفصيلة صغيرة، كل حركة غصن، كل حشرة طائرة وأسمع صوت الماء كأنه يجري داخلي حتى أنني أجزم أنني سمعت سمكة تقول لأختها: ويحك، لماذا تلبسين حذائي دون موافقتي؟ وطبعا فكرت في هاتفي، وفيسبوك والرسائل، والأصدقاء الافتراضيين، وتساءلت عن صحة أحد الأصدقاء الذي يرقد مريضا.

بعد ساعات انتهت رحلتي وعدت إلى البيت كمن يتسلل إليه، بهدوء شديد. وفي الليل وجدت نفسي بين الكتب مرة أخرى وهي تحيط بي من كل جانب.

انتهى اليوم إذن، وفِي الصباح ذهبت لجلب هاتفي، كأن شيئا لم يحدث. كأنني لست التي ضحكت مع كونديرا، وبكت مع فيسوافا، كأنني لست التي مشت في الغابة ولا سمعت صوت الأسماك المتعاتبة. كأن الذي يحتضر لم يمت حقا (وداعا أمجد ناصر).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button