نصب الثورة يحترق ليقدّم مشهدا فنيا احتدت ألفاظه وضوحا* ميموزا العراوي

النشرة الدولية –

عندما دوّن المفكر الفرنسي غاستون باشلار بكتاباته الشعرية والفنية البصرية، “في كل الأزمان وفي كل الساحات، الشروحات التي تنطق بها النار هي الأبلغ، فانصتوا إليها”، قصد بذلك سلسلة من الأفكارالمحتدمة في ضوئها وفي حشرجاتها المسموعة في قلب كل شعلة.

شعلة يمكن تعميم “شروحاتها” بداية من المدفئة الشتائية والأعمال الفنية الدلالية التي تعتمد النار كوسيلة وآثار في اللوحات التشكيلية والمنحوتات والأعمال التجهيزية، وصولا إلى اللهب الذي يطال نصبا رمزية كالذي وقف منذ أولى أيام الثورة اللبنانية في ساحة الشهداء وسط بيروت، والذي تحوّل مع مرور الأيام إلى نقطة ارتكاز احتشد حولها المتظاهرون كرمز لقوة الشعب وإصراره على تغيير النظام والإطاحة بسلطة الفساد والطائفية.

ففي الصباح الباكر من يوم عيد الاستقلال شبّ حريق هائل بمجسم الثورة المتمثل بقبضة يد كُتب عليها “ثورة”. وذكرت المصادر الإخبارية  أن شبانا حضروا على دراجات “نارية” وألقوا موادّ حارقة على المجسم، ما أدى إلى اشتعاله (علما أن هؤلاء حاولوا حرقه في بداية الثورة عندما حطموا الخيام المنصوبة المجاورة له).

لم يتمكن الشبان الذين كانوا يبيتون الليل منذ بداية الثورة في خيام ملاصقة للمجسم من إطفائه. هؤلاء الثوار ربما كانوا الأقدر على الإنصات إلى كلام اللهب ليس في التهامه للنصب بقدر إصغائهم له حين التفّ وتكوّن في مشهد قرب إلى التآخي بينهم وبين النصب المشتعل.

تشكيل بصري جارح لا يتحمل التأويل أجّج معنى الثورة وأطال نفسها. وكان للمشهد ببصريّته وصوتيّته كلام لم يعبّر إلا عن معنى الاحتراق حين يكون متواطئا مع الثورة رغما عن محدثي الحريق. وتجلى ذلك في كلام الناشطين على صفحات الفيسبوك، وليس فقط الثوار الذين كانوا على الأرض يوم الحدث، بهذه الكلمات “ما حصل سيشعل الثورة مجددا، ولن يطفئها”.

حين رفع النصب في بداية الثورة، رفع بهدوء ودراية ولم يتحلّق حوله الكثيرون إلا ليتأملوا ما يستطيع أن يجلب لهم هذا الرمز من  أمل. لكن المشهد اختلف تماما عند نصبه للمرة الثانية في ذات اليوم.

كل من كان حاضرا يتذكر كيف انتظر قدوم النصب إلى الساحة انتظارا مُحترقا بنار الشوق. سيتذكر أيضا لحظة وصوله إلى الساحة والحماسة المرافقة له والتي بلغت حدّا تعذّر على الثوار رفعه خلالها، لأن الكل، بمن فيهم النساء، أرادوا رفعه بسواعدهم بوساطة حبال غليظة.

توقفت المحاولات. ومرّت ساعات قبل أن تستبدل الحبال برافعة ضمنت عدم سقوط ثقل النصب على المتدافعين من حوله. فقد استبدل النصب المحترق الذي كان مصنوعا من خشب بحديد ثقيل. هكذا وحينها أصبحت الحشود قادرة على تحقيق ما كتبه يوما المفكر الفنان باشلار “الاستماع” لما قالته النار في النصب وما استمرت على قوله بعد احتراقه وعند عودته، وفيّا لهم ومثقلا بذاكرة النار، إلى ساحتهم، ساحة الثورة. أما كلمة “ثورة” فأضيفت إليها “للوطن“. كلمة عمّقت معنى كلمة “ثورة” بعد أن عمدتها النار المؤازرة للثوار في ثورتهم.

أمام كل هذا الحشد الملتف حول النصب الذي ألبسوه مبادئ ثورتهم وجد أنصار السلطة فيه “شيطانا”، أدخل إلى قلب لبنان من الحكومات العالمية التي تسعى إلى تقويض الأنظمة ونشر الفوضى. معتبرين أنه رمزا من رموز الحركة الماسونية، التي تُنسب إليها رواية المؤامرات الكونية.

وردا على هذا التشويه قالت أوساط متابعة إن السلطة السياسية باتت مفلسة وغير مرغوب فيها من قبل شعبها، ولم تعد تملك أيّ حجج للدفاع عن نفسها سوى تسويق نظرية المؤامرة.

والقبضة بكل أحوالها هي رمز غير متكلف ويشير مباشرة إلى القوة، فما بالك إذا وضع في وسط ساحة تعج فيها الجماهير المنتفضة! إنها القوة في يد الشعب، أي أن يتولى الشعب صياغة حكام يليقون به، ومن هنا أهم شعارات الثورة اللبنانية “ثورة سلمية- شعبية”. فهل في هذا أيّ خيانة للوطن وتبعية لحكومات خارجية، إيرانية كانت أم أميركية؟

اختار هؤلاء أن يصبوا غيضهم على شكل الشعار وتغاضوا عن  خصوصية هذه الثورة وأسبابها المتمثلة بفسادهم وبتأجيجهم للنعرات الطائفية لصالحهم على مدى لا يقل عن 30 عاما.

وفي هذا السياق يجدر القول إنه كان من الأفضل لو قام مصمّمو نصب الثورة، ببحث أعمق قبل أن يختاروا هيئته الحالية. وقد صرّح منفذّوه أنهم اختاروه دون الكثير من التمعّن، وهذا يتنافى قطعا مع الفن الملتزم وخطورة دوره في المجتمعات والثورات بشكل خاص.

لو جاء شكل النصب كحصيلة بحث أعمق لكان قادرا أن يقطع على السلطة طريق شيطنته. ويبقى النصب قبضة أو غير قبضة في يد الثوار اللبنانيين منتصرا على هيئته، قادرا على أن يحمل وجعهم ومبادئ ثورتهم المُحقة لصالح لبنان في الرمز كما على الأرض.

العرب الدولية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button