الافتراضي يوثق بالفن تاريخ الثورة اللبنانية* ميموزا العراوي
النشرة الدولية –
عندما نواجه كلمة “افتراضي” أول معنى يذهب إليه ذهننا هو الهشاشة وقابلية التلاشي حيث يلعب مرور الوقت دورا مصيريا في المسألة. لكن هذا مناقض تماما لما نعثر عليه في فضاء الثورة اللبنانية. إذ يتولى “الافتراضي” مهمة إنقاذ موجودات دامغة على أرض الواقع والحفاظ عليها قبل أن تتلاشى تحت طبقات موجودات أخرى. كما يقوم هذا الافتراضي على تقديم السهولة والسرعة في وضع واقعين مختلفين منبثقين من ذات البيئة اللبنانية ذاتها.
أقصد بهذه الكلمات أولا مقابلة جدارين. الأول من الماضي والثاني من الحاضر. وأقصد أيضا الإشارة إلى الرسومات والتعابير على “جدار الثورة” المحيط بمبنى الأسكوا في وسط بيروت، وثالثا الرسومات المنفذة خصيصا لكي تنشر على شبكات التواصل.
يجدر هنا أن نعود إلى الحرب اللبنانية عندما كان أفراد الميليشيا يدمغون الجدران بشعارات مرسومة ومكتوبة، ليقوم آخرون بعد تبدل في المواقف وأماكن احتدامها، بمحوها عبر الكتابة فوقها لتختفي صفحات متتالية من كتاب التاريخ الشاهد على ما كان يحدث فعلا على أرض الواقع.
اليوم، وخلال أيام الثورة يحدث الأمر ذاته؛ إذ يقوم الثوار غير المحترفين والفنانون الملتزمون على حد السواء بكتابة شعارات ورسومات فوق بعضها البعض. يظهر بعضها ويختفي بعضها الآخر خلفها. لكنها بصريات لا تتناقض بل تستكمل بعضها البعض كلما دخل عنصر سردي جديد إلى الثورة.
وإذا كانت الصورة الفوتوغرافية، بطلة التوثيق في الحرب، قامت بالحفاظ على “إرث” الحرب البصري، فاليوم مواقع التواصل الاجتماعي باتت تلعب الدور نفسه، بل أكثر، بسب كثافة وسرعة الانتشار التي تميزها وقيامها بنشر أعمال فنانين استنبطوا من الصور الفوتوغرافية الدلالية أعمالا فنية تُضاعف التوثيق البحت بفنية تصل أحيانا إلى حد الاستثنائية.
كما تميزت التقنيات الفنية الديجيتالية المتماشية تقنيا تماما مع منصات شبكات التواصل بالسرعة الهائلة في تقديم الأعمال إلى الجمهور. نذكر على سبيل المثال: نشر ثلاثة أعمال فنية ديجيتالية لافتة نفّذت بعد أقل من ساعتين على حرق نصب “الثورة” المتمثل بقبضة نصبت في ساحة الشهداء وسط بيروت.
ويمكن اعتبار استخدام تطبيق إنستغرام الأهم من هذه الناحية على الإطلاق، ففي الثورة اللبنانية أصبح هذا التطبيق يوثّق كيانين متصلين عبر فن التزم روح الثورة ومبادئها: الكيان الأول هو الشعب كبطل وحّدته الثورة، والثاني يطال أفرادا استثنائيين من هذا الشعب لعبوا دورا مهما جدا في ضخ الحماسة والاستمرارية في شرايين الثورة.
برز “الشعب” في رسومات زيتية وديجيتالية تخلد جماعة من الناس ينظفون الطرقات بعد كل “جولة” مظاهرة وأناسا متحلّقين حول تمثال الشهداء… إلخ.
أما الأبطال الفرادى في الأعمال الفنية فهم أيضا كُثر وقد انتشرت هذه الصور لاحقا في مطبوعات ورقية ومنحوتات صغيرة ومنمنمة على قمصان وسلاسل ارتداها الناس. نذكر من تلك الأعمال تلك التي جسدت فتاة من ذوي الاحتياجات الخاصة التي أصرت على المشاركة في الحراك، وصورة المتظاهرين، لاسيما النساء، في وجه عناصر الأمن في ساحة رياض الصلح. ونذكر أيضا العمل الفني الذي قدّمه سامي قانصو والذي جسد المرأة التي ركلت أحد عناصر المرافقة الأمنية لوزير لبناني في بطنه. وأدخل الفنان إلى صورته أيقونة “القلب” المستخدمة في شبكات التواصل تأكيدا منه على أهمية تلك المنصات الافتراضية في إذكاء نار الثورة وطبيعتها الجماعية.
ومن الأعمال أيضا تصميم يجسد لحظة بكاء جندي من الجيش اللبناني خلال التظاهرات اللبنانية ومواساة أحد المتظاهرين له. كما تحوّلت لقطة تلفزيونية لشاب مقطوع الرجل يقوم بتنظيف ساحة النور في طرابلس إلى عمل فني رائج.
الأبطال الفرادى
الأبطال الفرادى
قبيل اندلاع الثورة وقع أول شهيد اعتبره اللبنانيون رمزا وطنيا موحدا، مثّل حرقتهم أمام اشتعال أحراش لبنان الخضراء التي لم تقو السلطة على إطفائها. ومن ثمة تحوّلت صورته الشخصية إلى أعمال فنية تُخلد مروءته. اسم الشهيد سليم أبومجاهد وقد توفي مختنقا بالدخان حين كان يحاول مع باقي أهل البلدة إطفاء النيران.
لم تتول أيام الثورة التي جاءت مباشرة بعد حوادث الحرائق حتى سقط شهيد ثان لتنتشر صوره في أعمال فنية على مواقع التواصل الاجتماعي تُظهر جدارية له: حسين العطار، الذي قضى على طريق المطار في بداية الحراك برصاصة خلال مشاركته في تظاهرة هناك.
ومن وسط بيروت سقط الشهيد الثالث عمر زكريا من مبنى قديم في وسط بيروت، وهو يحاول زرع العلم اللبناني على سطحه. خُلّد في عمل فني مؤثر، لاسيما بعد أن ذكر صديقه أن جثته بقيت فترة في المستشفى، لأنه رفض تسليمها لأهله حتى يدفعوا مبلغ 23 ألف دولار أميركي.
وجاء الشهيد الرابع الذي لعبت ظروف استشهاده دورا رئيسيا في انتشار عدد من الأعمال الفنية عنه. فقد أطلق عليه الرصاص القاتل أحد شبيحة السلطة على مرأى من ابنه الصغير وشقيقته وزوجته عندما كان وسط ساحة التظاهر في “دوحة الشويفات” القريبة من بيروت.
ما يُصنع الآن بفضل شبكات التواصل والوسائط الفنية الديجيتالية هو تأريخ فني للثورة اللبنانية سيبقى ماثلا أمام هذا الجيل وأمام الأجيال القادمة. توثيق بصري جم يحتاجه ويريده بلد اعتاد أن يمحي صوره وتاريخه وأوجاعه تحت ستائر الحياة اليومية المشحونة بكل أنواع التناقضات.
عن العرب الدولية